: آخر تحديث

«الحقيقة» التي يطاردها الفرسان...!

3
3
3

كان توماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، والرجل الأهم في كتابة إعلان الاستقلال، وثالث رئيس أميركي، يقول: «الحقيقة لا تخشى التدقيق»، لأنه يفترض أنها ساطعة! ولأنه «لا شيء أكثر قوة من الحقيقة البسيطة»، كما يقول إيمانويل كانط... لكن «الحقيقة» فريسة مطاردة في كل بقاع هذا العالم... أقدم المعارك في التاريخ وأطولها هي المعركة مع الحقيقة...! في هذه المعركة يحتشد فرسان السيف والقلم، لتزييف الوعي والسيطرة على العقول.

الكل يجري خلفها، حاملاً حربته: المثقفون والفلاسفة ليسوا أرحم من السياسيين في الاستيلاء على الحقيقة، ولا يقلّون جرأة في التزييف! في كتابين ألَّفهما عن الخير والشرّ وعن الأخلاق، يتحدث الفيلسوف الألماني نيتشه عن نمط أخلاقي خاص بالنبلاء الأثرياء، يُسميه: «أخلاق السادة»، يتسم بالذكاء والتقدم والنبل، ويمثل «الخير»، وهو النمط الأصلي للأخلاق، يقابله نمط متردٍّ فاسد، هو «أخلاق العبيد»، فهؤلاء بصفتهم جنساً بشريّاً يتسمون بالكذب والدونية والجبن والفشل والقسوة والعدوانية، وهم يمثلون «الشرّ»، وأصلاً، فإن أفضل ما يُمنح للأفارقة السود أن يكونوا عبيداً، لأنهم - عنده - لا يتألمون كما يتألم البشر!

موضوع «حرق الكتب» في رواية «فهرنهايت 451»، كان تعبيراً عن طمس الحقيقة، وتزييف الوعي، خلال حملة الإرهاب الثقافي الذي مارسته السلطة في الولايات المتحدة بداية الخمسينات من القرن الماضي، وعرفت بـ«المكارثية»؛ حيث قامت السلطة بحملة قمع سياسي لتخوين وتخويف المعارضين داخل البلاد، أصبحت الولايات المتحدة خلالها معقلاً للاستبداد الفكري والإرهاب الثقافي، بدعوى محاربة الشيوعية.

ومن أجل الحقيقة، وظّف جورج أورويل روايته «1984» لكشف تلاعب السلطة بالحقيقة، عبر إنشاء نظام استبدادي يُسطر المعرفة من خلال التلاعب بالمعلومات، وفرض «حقيقة» تخدمها.

في عصر السينما والذكاء الاصطناعي، بل في عصر الكسل الثقافي، الذي صاحبه؛ حيث يسلّم بعض الناس عقولهم للمواد الإعلامية والفنية التي تمطرهم بها وسائل الإنتاج الكاسحة دون تمحيص ودراية، تصبح السرديات المزيفة حقائق مقنعة، معلبة بأدوات التشويق الفني والبصري.

خذ مثلاً الفيلم الأميركي الأخير Horizon (الأفق: ملحمة أميركية)، في فصله الأول، وهو فيلم ينتمي إلى نوع الدراما التاريخية/الغربية (Western) يتناول قصة ملحمية تجري أحداثها في الغرب الأميركي خلال فترة توسع الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. يُقدّم هذا الفيلم تاريخاً لقيام الولايات المتحدة، خصوصاً الصراع مع السكان الأصليين، لا يمتّ للواقع. السينما الأميركية لديها تاريخ عريق في التلاعب بالسرديات والأحداث، ولكن هذا الفيلم تفوّق على الجميع، فقد أظهر المستوطنين الأوروبيين في الغرب الأميركي ضحايا، وأظهر السكان الأصليين معتدين ومتوحشين، يُهددون «الحضارة»، متجاهلاً دفاعهم عن أراضيهم وحقوقهم. والفيلم (في فصله الأول) يسرد معاناة المستوطنين فقط، دون الاعتراف بالظلم التاريخي ضد السكان الأصليين (مثل التهجير، والإبادة الجماعية، والمعاهدات الكاذبة)، لكن، وفي تزييف مدهش، يتم الزجّ بعناصر من الأميركيين السود باعتبارهم جزءاً من المستوطنين، في محاولة لتقديم تنوع سطحي، وجذب تعاطف المشاهد، وهو ما يتناقض مع الحقائق التاريخية، فخلال فترة التوسع الغربي، كان معظم الأميركيين السود يعيشون تحت نظام العبودية، أو يعانون من العنصرية الممنهجة، وليسوا شركاء فعليين في «المشروع الاستيطاني».

هذا الفيلم، ببساطة، يقوم بإعادة كتابة التاريخ لتبرير أفعال المستوطنين، حتى ينشأ جيل جديد يرى في آبائه المستوطنين أبطالاً واجهوا عصابات الشرّ الهمجية من أولئك السكان الأصليين، هل يذكرنا هذا الفيلم بما كُشف عنه من تصريحات لحاكم ولاية أركنساس السابق مايك هاكابي، الذي رشّحه الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترمب، لتولي منصب السفير الأميركي في إسرائيل؛ حيث قال: إنه «لا يوجد شيء اسمه فلسطيني»، وإن الأمر «أداة سياسية لمحاولة إجبار إسرائيل على التخلّي عن أرضها»... هكذا...!

يقول الرئيس الأعظم في التاريخ الأميركي، أبراهام لنكولن (1809-1865): «يمكنك خداع جميع الناس بعض الوقت (ويمكنك خداع) بعض الناس طوال الوقت، ولكن لا يمكنك خداع جميع الناس طوال الوقت»...!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد