: آخر تحديث

عقل في السجن

4
3
3

تناولت مقالة الأسبوع الماضي ما سميته «عقدة الضحية»، أي شعور الإنسان بأنه خائب الحظ دائماً، لا لأنه قصّر في شيء، بل لأن قوى أخرى، ظاهرة أو خفية، تسعى لإحباطه وإفشال مساعيه. وقد نبهني أحد الزملاء إلى تمييز ضروري، بين تطبيقات هذا الشعور على المستوى الشخصي، وتطبيقاته على المستوى العام. وخلاصة ما قاله أن غالبية الناس لا يفسرون إخفاقاتهم الشخصية بكونهم ضحايا، إلا في حالات قليلة. في معظم الحالات يميل الفرد للتفاؤل، ولا سيما حينما ينجح في تعليمه أو في وظيفته أو علاقاته مع الناس.

لكن هذا الشخص الناجح نفسه، ربما يتغير 180 درجة حين يتعلق الأمر بمشكلات على مستوى واسع النطاق، أي على مستوى الوطن العربي أو الأمة الإسلامية أو العالم الثالث ككل. فكأن المؤامرة المزعومة لا تستهدف الأفراد، بل تستهدف الأمم.

والتزاماً بالاحتياط، فقد سألت بضعة أشخاص ممن أعرف أنهم مؤمنون بفكرة المؤامرة العالمية، سألتهم: هل وجدوا مؤشراً على مؤامرة تستهدف أشخاصهم، فأجابني أربعة منهم بأنهم لا يعتقدون أصلاً بأن العالم يهتم بهم كأفراد، بل يتوجه خصوصاً إلى الأهداف ذات القيمة الرمزية على مستوى الوطن أو على مستوى الأمة، وقد يستهدف الأفراد الذين يمكن اعتبارهم جزءاً من رأس المال البشري أو الرمزي للأمة ككل، مثل العلماء والقادة، ومن يلعب أدواراً مؤثرة في المجال العام.

وللحق، فإنني لم ألتفت لهذا التمييز من قبل، وأظنه جديراً بالتأمل، لمن يتقبل - من حيث المبدأ - احتمال وجود مؤامرة عالمية.

ذلك النقاش لفت انتباهي إلى ما أظنه ارتباطاً بين عقدة الضحية والدوغمائية في النظر للعالم والتاريخ. وخلاصة ما يقال في هذا الباب، أن المصاب بعقدة الضحية، وهو غالباً من المؤمنين بالمؤامرة الكونية، لديه قائمة مُسلَّمات لا يقبل النقاش فيها. وقد يندهش إذا سمع من ينكرها أو يخالفه الرأي في بعضها. ومن ذلك مثلاً، أن أحدهم - وهو مُصنَّف ضمن دائرة المثقفين - كتب لي قائلاً إن منكري المؤامرة الدولية مخدوعون، أو هم جزء من المؤامرة، سواء أدركوا ذلك أم غفلوا عنه.

ومن ذلك أيضاً ما كتبه أكثر من واحد عند بداية الحرب في قطاع غزة، من أن اليهود عاجزون عجزاً ذاتياً عن مواجهة العرب؛ ولهذا السبب فإن هزيمتهم أمر محتوم. وقد قلت لأحد الزملاء إن اليهود قد هزمونا سابقاً، فأجابني بأن أميركا هي التي هزمتنا وليس إسرائيل. فأخبرته برأيي وخلاصته أننا مثل كل خلق الله، ننتصر إذا أخذنا بأسباب القوة والغلبة، ونفشل إذا تركنا تلك الأسباب أو أخذ بها عدونا. عِرقنا مثل ديننا وتاريخنا، ليس سبباً في النصر ولا الهزيمة. فأجابني بأنني قصير النظر، عاجز عن قراءة التاريخ.

والحق أن نقاشاً كهذا لا جدوى وراءه، وأن قبول فكرة المؤامرة أو رفضها ليس بذي أهمية، إلا إذا كان الغرض هو التحرر من حالة الدوغمائية، التي نحتاج حقاً إلى الخلاص منها. بعبارة أخرى، فإن عقدة الضحية والاعتقاد في المؤامرة، قد يكونان تمظهراً لحالة انغلاق ذهني، تصد العقل عن التفكير في مختلف الاحتمالات، الموافقة لقناعاته تلك والمناقضة لها. هذا مهم جداً؛ لأن الدوغمائي يتخيل الحقيقة في جيبه دائماً، بينما لا يبعد أن تكون قناعاته قائمة على فرضيات متوهمة أو مصطنعة، وأن الحقيقة في مكان آخر مختلف تماماً.

وقد لاحظت أن الدوغما شائعة بين هؤلاء الذين يحملون آيديولوجيات صلبة. ويذكرني هذا بنص مسرحي قديم للمخرج الإيراني محسن مخملباف، اسمه «أسوار داخل أسوار» يصور فيه دوغمائياً رفض الخروج من زنزانته، رغم فتح أبواب السجن وهرب السجناء والحراس جميعاً. لأنه يعتقد أن ما يحصل ليس التحول الاجتماعي العميق، الذي كان سيؤدي - وفقاً لرأيه - إلى الحرية. ولهذا اعتبر السجناء الذين فروا من زنازينهم، واهمين، وأنه هو الوحيد الذي يرى الحقيقة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد