في العقود الأخيرة، ظلّ المشهد الإعلامي العربي أسيرًا لبؤرة ضوء مركّزة على غزة، وكأنها الأزمة المهيمنة دون منازع، وكأن كل الجراح العربية الأخرى ليست سوى هوامش في كتاب المآسي. هذا الانحياز الإعلامي، الذي يتجاوز أحيانًا أولويات إنسانية موازية، يكشف في الحقيقة عن شبكة مصالح سياسية واقتصادية، أكثر مما يعكس تضامنًا بريئًا أو تعاطفًا إنسانيًا محضًا، لقد تحولت غزة، كما أرى، إلى ملف قابل للتدوير في أجندات القوى الإقليمية، بقدر ما هي أزمة إنسانية تبحث عن حل، وبهذا، صار استمرار النزيف ضمانًا لاستمرار نفوذ أطراف بعينها، لا العكس.
عند النظر إلى الخريطة العربية، نجد دولًا مثل اليمن، حيث الحرب المستمرة منذ سنوات أودت بحياة مئات الآلاف ودفعت الملايين إلى حافة الجوع، والسودان، الذي يعيش منذ عام 2023 على وقع صراع دموي شرّد الملايين وأغرق البلاد في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية المعاصرة، فضلًا عن ليبيا التي تتأرجح منذ سنوات بين الفوضى والفراغ السياسي. ورغم فداحة هذه الكوارث، لم تحظَ أي منها بنفس المساحة الإعلامية والسياسية التي تُمنح لغزة، الأمر الذي يثير سؤالًا مشروعًا، لماذا يتصدر ملف غزة دائمًا واجهة الخطاب العربي، بينما تُترك أزمات أخرى في الظل؟ بلا شك، هذا التفاوت لا يمكن تفسيره فقط باعتبارات التضامن الإنساني، بل يرتبط بتراث طويل من توظيف القضية الفلسطينية كأداة في لعبة النفوذ الإقليمي.
الأرقام نفسها تكشف هذا الخلل، ففي عام 2025، قدّرت الأمم المتحدة احتياجات السودان الإغاثية بنحو 6 مليارات دولار لتغطية احتياجات أكثر من 21 مليون شخص، واحتياجات سوريا بنحو 8.6 مليار دولار لحوالي 16.7 مليون محتاج، بينما حُدد لغزة نحو 4 مليارات دولار لمساعدة 3.3 مليون شخص فقط. من وجهة نظري، هذا التفاوت في توزيع الموارد يعكس أن غزة، رغم معاناتها الحقيقية، تحظى بوزن سياسي وإعلامي أكبر بكثير من وزنها الديموغرافي أو حجم الكارثة مقارنة بأزمات عربية أخرى تفوقها حجمًا وتأثيرًا.
تاريخيًا، ليست غزة أول ملف إقليمي يتم تضخيمه ليصبح أكبر من حدوده الجغرافية. فالحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990) تحولت آنذاك إلى منصة لتصفية حسابات إقليمية ودولية، أعتقد أن المشترك بين هذه الملفات هو أنها تحولت إلى قضايا قابلة للتسويق سياسيًا، بحيث تصبح قيمتها في استمرارها لا في حلها، بل إن استمرارها قد يكون شرطًا لبقاء أدوات النفوذ والابتزاز السياسي قائمة.
في حالة غزة، تمكّنت أطراف متعددة من صياغة سرديات راسخة حول القضية المركزية، لتبرير مواقفها وكسب الشرعية داخليًا وخارجيًا. ويرى المراقبون أن هذه السرديات تتغذى على استمرار النزيف، لأن توقف القتال أو الوصول إلى تسوية دائمة مع دولة إٍسرائيل سيؤدي إلى فقدان أدوات ضغط أساسية، سواء ضد دول عربية تسعى للسلام، أو ضد قوى دولية يمكن مساومتها عبر ورقة المظلومية. وفي عام 2010، أقرّ الأمين العام الأسبق للجامعة العربية عمرو موسى بأن "القضية الفلسطينية استُخدمت في كثير من الأحيان كأداة في الصراعات البينية العربية"، وهو اعتراف نادر من مسؤول عربي على هذا المستوى.
لا يمكن تجاهل أن هناك دولًا وأنظمة عربية تتعامل مع حل الأزمة الفلسطينية باعتباره ضرورة استراتيجية لإنهاء حالة الاستنزاف وفتح آفاق التنمية الإقليمية، لكن في المقابل، هناك قوى تعتبر بقاء الأزمة والعداء مع دولة إٍسرائيل ضمانة لاستمرار نفوذها الإقليمي ومصدرًا للتربح السياسي والاقتصادي. في الحقيقة، هذه الازدواجية تجعل من غزة ملفًا يتأرجح بين منطق إنهاء المعاناة ومنطق استثمارها، حيث يصبح الضحايا مجرد تفصيل في معادلة أكبر.
في المشهد العربي، انعكست هذه الظاهرة في شكل حملات إعلامية ضخمة حول غزة، تُقدَّم على أنها الامتحان الأوحد للموقف العربي من العدالة والحرية، بينما تُترك أزمات اليمن والسودان وسوريا ودول أخرى في هوامش التغطية، وكأنها تفاصيل ثانوية. في الحقيقة، هذا التوزيع غير العادل للضوء الإعلامي يخلق شعورًا بالغبن لدى شعوب تلك الدول، ويضعف فكرة التضامن العربي التي يُفترض أن تقوم على وحدة المصير والمبدأ الإنساني.
كما أرى، فإن إعادة التوازن تتطلب تحرير ملف غزة من أسر كليشيهات القضية المركزية، والاعتراف بأنها جزء من منظومة أوسع من المآسي التي تضرب العالم العربي. المطلوب هو نقل الخطاب من الاستثناء إلى الشمولية، بحيث لا تبقى غزة وحدها واجهة التضامن العربي، ولا تبقى بقية الأزمات رهينة الإهمال أو الصمت، لأن التضامن الانتقائي يخلق فرزًا غير عادل بين الضحايا، ويحوّل المبدأ الإنساني إلى ورقة مساومة سياسية.
ويرى المراقبون أن هذا التغيير ليس مجرد مسألة إعلامية، بل هو إعادة صياغة لأولويات الأمن الإنساني في المنطقة. طالما بقيت الميكروفونات في يد القوى الديكتاتورية المستفيدة من استمرار النزيف، فلن يتغير المشهد. لكن إذا تعددت المنابر وتنوعت الأجندات، ستصبح المقارنة بين غزة وغيرها من الأزمات أكثر توازنًا، وسيجد المتلقي العربي نفسه أمام صورة كاملة، لا أمام إطار واحد مقصود بعناية.
وفي النهاية، أعتقد أن المأساة الحقيقية لا تقاس بعدد الكاميرات المسلطة على جرح ما، بل بعدد الأرواح التي تُزهق والأحلام التي تُدفن، سواء كان ذلك في غزة أو صنعاء أو الخرطوم أو حلب. إذا أراد العرب أن يستعيدوا معنى التضامن، فعليهم أن يوزعوا الضوء والجهد بعدالة، وألا يتركوا ملفًا واحدًا يحتكر الخطاب، لأن في ذلك ظلمًا للحقيقة، وخيانة لمعنى الأخوّة التي تتجاوز الحدود والشعارات، وتمنح لكل دم عربي القيمة نفسها بلا تمييز أو انتقاء.