كموريتاني، لا أتابع ما يجري في السودان بوصفه صراعاً بعيداً عن الفضاء الذي أنتمي إليه، بل أراه امتداداً لجزء عميق من ذاكرتنا المشتركة مع وادي النيل؛ فمنذ نحو سبعة عقود، اتجه جزء من أسرتي إلى تلك الربوع التي كنا نسميها سنّار، بحثاً عن العلم والتجارة وروابط الطرق الصوفية، فوجدوا بين أهل السودان الأمن والألفة وحسن الضيافة. وعلى تلك الأرض اختلطت الدماء وتشابكت المصاهرات وتداخلت الملامح، حتى غدا السودان بالنسبة إلينا، نحن أهل موريتانيا وبلاد شنقيط، أكثر من بلد شقيق؛ صار جسراً إنسانياً وثقافياً بين المغرب العربي وشرق القارة الأفريقية، وأحد المعابر التي عبرت منها الهوية العربية إلى أفريقيا جنوب الصحراء عبر الدين، والتجارة، والمدارس العلمية.
هذا الارتباط لم يكن سياسياً فقط، بل وجد له صدى عميقاً في الثقافة والأدب؛ ففي أعمال الطيب صالح الروائية، وانطلاقاً من «موسم الهجرة إلى الشمال» إلى «عرس الزين» و«دومة ود حامد»، كنا نقرأ السودان كما عرفناه عبر الذاكرة والواقع؛ مجتمعاً يلتقي عنده العربي والأفريقي في تركيبة نادرة، تتجاور فيها الصوفية والمدنيات التاريخية، وتنهض فيها ثقافة التسامح على قاعدة عريضة من التنوّع العرقي واللغوي. كانت تلك الروايات بالنسبة إلى أجيالنا جسراً معرفياً يقرّب السودان إلينا، ويجعلنا نرى فيه مرآة لتعقيدات العالم العربي حين يطل على أفريقيا من دون وصاية ولا قطيعة.
غير أن المشهد الراهن يبدو نقيضاً لكل ما تراكم عبر عقود؛ فقد تحوّلت تلك الأرض التي كانت يوماً فضاءً للتعايش إلى ساحات اقتتال ضارٍ، تنقسم فيها المدن والقرى على أسس قبلية وجهوية، وتخضع مناطق بكاملها لمنطق السلاح والميليشيات، ويُستباح فيها المدنيون بدم بارد. لم يعد الأمر خلافاً سياسياً على السلطة، أو تبايناً في الرؤى حول شكل الحكم؛ صار انهياراً في البنية الأخلاقية والاجتماعية التي حفظت السودان من الانزلاق إلى العنف الواسع طوال عقود، رغم ما واجهه من تقلبات وانقلابات وصراعات أطراف.
عرفت عن قرب بعض المحاولات التي سعت إلى تجنيب السودان هذا المصير، ومن أبرزها الوساطة التي اضطلع بها البروفسور محمد الحسن لبات، الدبلوماسي الموريتاني المعروف بخبرته في ملفات النزاعات الأفريقية. فقد استطاع، في لحظة فارقة، أن يجمع أطرافاً سودانية متنازعة على شاطئ الأطلسي في نواكشوط، بعد جولات تفاوضية شاقة تعاقبت فيها العواصم الأفريقية والدولية. يومها بدا وكأن الطريق نحو تسوية سياسية ممكنٌ، وأن السودان يمتلك فرصة للخروج من الأزمة عبر اتفاق يضع أسس انتقال سلمي للسلطة. غير أن ما تلا ذلك أكد هشاشة هذا المسار، في ظل تغليب الحسابات العسكرية على مشروع الدولة، وانعدام الثقة بين مكونات السلطة الانتقالية، وتداخل الأجندات الخارجية.
إن السؤال الجوهري اليوم لا يتعلق فقط بمآلات المعركة في الخرطوم أو الفاشر أو مدني، بل يتعلق بالنسيج المجتمعي الذي انهار وسمح للحرب بأن تطول المجتمع كله. ما الذي أصاب توازنات دارفور وسنار وكردفان وغيرها من الأقاليم حتى انفجرت بهذا الشكل؟ وكيف تراجعت المرجعيات الثقافية والدينية السودانية التي شكلت لعقود سياجاً أخلاقياً حافَظَ على وحدة المجتمع؟ ولماذا فشلت النخب السياسية، على اختلاف تياراتها، في تحويل لحظة التغيير التي أعقبت سقوط النظام السابق إلى عقد أو ميثاق وطني جامع، يحدد وظيفة الجيش، ويؤسس لسلطة مدنية في خدمة الجميع لا تقوم على المحاصصة أو توازنات القوة؟
السودان، في واقعه الحالي، ليس حالة معزولة. إنه جزء من سياق إقليمي أوسع يمتد عبر الساحل وغرب أفريقيا وشرقها؛ حيث تُترك الدول الهشة من دون مؤسسات قادرة على ضبط التعدد، فتتحول الجغرافيا إلى فراغ تملأه لغة السلاح، وتتقدم مراكز القوى المسلحة على حساب الدولة. إن سقوط السودان - إن وقع لا قدَّر الله - لن يكون مجرد مأساة داخلية، بل نقطة تحول إقليمية قد تعيد رسم موازين القوى في القرن الأفريقي، وتفتح الباب أمام موجات نزوح وتطرف وتدخلات قد لا تملك دول الجوار القدرة على احتوائها.
التحدي المطروح أمامنا، نحن أبناء المنطقة، لا يتمثل في رثاء السودان من بعيد، بل يتجسد في البحث عن أدوات عملية لإعادة بناء الجسور بين مكوناته المهددة بالانهيار، ودعم مسارات حلول واقعية لا تكتفي بالشعارات، بل تعيد الاعتبار بشكل حاسم لفكرة الدولة الجامعة.
السودان إن سقط نهائياً فإنه لن يسقط وحده؛ ستتداعى معه توازنات إقليمية يقوم عليها الأمن وطرق التجارة والتاريخ المشترك. وعلينا حينئذ تصور سيناريو قاتم الملامح لمآلات المنطقة ولشعوبها. فهل ينجح السودان في تجنب المخاطر المحتملة لاستعادة ذاته؟

