: آخر تحديث

سقط القناع وانكشف مستور...إكس 

2
2
2

لا يمكن لأي مراقب حصيف أن يتجاهل التحولات العاصفة التي شهدتها بيئة الإعلام والتواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط خلال العقد الأخير، فهذه المنصات، التي بدأت يومًا كمساحات حرة للتعبير، تحوّلت تدريجيًا إلى أدوات للهندسة النفسية والسياسية في يد قوى إقليمية تصنع عبرها سرديات موازية للواقع، بهدف إعادة تشكيل وعي الشعوب وتوجيه المزاج العام. ومن وجهة نظري كمراقب، فإن أخطر ما في هذه الموجة ليس مجرد التضليل، بل قدرة بعض الأطراف على استخدام خطاب المظلومية العربية نفسه كأداة للاختراق وبث الفتن.

لقد اعتادت الأنظمة الإقليمية المتورطة في إشعال الفوضى على حيلة تسويقية قديمة، وهي اتهام اليد الإسرائيلية بأنها المحرّك الأول لأي رأي معارض أو أي دعوة للتغيير السياسي داخل المنطقة، وبلا شك، فإن هذا الخطاب وجد له صدى في بيئات شعبية أنهكها الصراع العربي–الإسرائيلي، وتراكمت فيها مشاعر الريبة والاحتقان. أعتقد أن هذه السردية صُمّمت بذكاء شديد لتعمل كصمّام أمان يمنح تلك الأنظمة فرصة لإسكات أي صوت نقدي عبر وصمه بالعمالة أو الارتباط بالعدو.

غير أن المفاجأة التي هزّت الرأي العام العربي أخيرًا جاءت من مصدر غير متوقّع، وهي منصة X (تويتر سابقًا)، إذ سمح تحديث تقني بسيط بكشف المواقع الجغرافية لبعض الحسابات الأكثر نشاطًا في التحريض على الانقسامات وإثارة الفتن داخل العالم العربي. وهنا كانت الصدمة التي نسفت عشرات السرديات الإعلامية التي صُنعت بعناية خلال سنوات طويلة.

الحقيقة المُرّة التي اكتشفها الجمهور العربي، ومعه صنّاع القرار، أن أغلب تلك الحسابات لم تكن إسرائيلية كما ادّعت الأبواق المأجورة، بل كانت تتوزّع بين دولتين إقليميتين رئيسيتين في الشرق الأوسط، إضافة إلى مجموعات منظّمة تعمل من غرب آسيا وتحمل أجندة تخريبية ممنهجة.

تقول مراكز الأبحاث الغربية المهتمة بالأمن المعلوماتي إن عمليات التنكّر الرقمي أصبحت فنًّا قائمًا بحد ذاته، يتم عبره ارتداء أقنعة قومية أو دينية لتسويق خطاب سياسي خبيث. وقد ظهرت العديد من تلك الحسابات مرتديةً كوفية فلسطين، ورايات دينية، وشعارات قومية، بينما كانت في الجوهر تعمل ضمن برامج متقنة لاختراق النسيج الاجتماعي العربي، والتحريض على العنف، ونشر الكراهية تجاه الأنظمة العربية ومؤسسات الأمن القومي.

بلا شك، فإن الحقيقة التي ظهرت على منصة X أظهرت أن البعبع المزعوم لم يكن في الغرفة أصلًا، وأن من كان يدير المسرح هم أطراف إقليمية تستخدم "قضية فلسطين" و"لغة الدين" بوصفها ستارًا لخدمة مشاريعها السياسية الخاصة.

ويقول الخبراء في مراكز الدراسات الاستراتيجية إن هذا الأسلوب ليس جديدًا، بل هو جزء من بنية ثابتة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تتبادل الأنظمة وظائف الفوضى من خلال طرف يحتلّ الأراضي، وطرف يفتّت المجتمعات، وآخر يدير شبكات الابتزاز السياسي والدعائي، بينما يمارس آخرون تجارة "الأخلاق والشرف والنقاء الثوري" فوق منابر الإعلام. إنها، كما يصفها أحد الباحثين، نسخة حديثة من مسرحية قديمة تُعاد كل عقد بوجوه جديدة.

ومن المهم الإشارة إلى أن هذا الكشف وضع أجهزة الأمن القومي العربي أمام حقيقة جديدة، وهي أن حروب الجيل السادس – القائمة على إدارة الإدراك وإعادة تشكيل السلوك الجمعي – أصبحت أخطر من الحروب التقليدية. تقول مراكز الأبحاث في لندن وواشنطن إن 70% من حملات التحريض لا تستهدف إسقاط أنظمة بقدر ما تهدف إلى إنهاك الشعوب نفسيًّا، وإفقادها الثقة بمؤسسات الدولة، وإدخالها في حالة تآكل ذاتي طويل المدى. وهذه الاستراتيجية، التي تنتمي إلى مدارس "الهجوم الرمادي"، شاهدنا نتائجها في دول عربية انهارت دون طلقة واحدة.

في الحقيقة، ما يجعل هذه الظاهرة أكثر خطورة أن بعض الحكومات الإقليمية تبني قوّتها وعلاقاتها الخارجية على مبدأ المقايضة السوداء، التي تعتمد على تخريب محيطها مقابل كسب نفوذ أو اعتراف دولي. ومن وجهة نظري، فإن هذه العقلية البراغماتية المتوحّشة – التي تتجاوز الأخلاق وتتزيّن بشعارات الدين والقومية – هي التي تبقي الشرق الأوسط رهينةً للفوضى، وتعيد إنتاج الصراع مع كل جيل جديد.

لقد كشفت منصة X أن هذه الجهات لا تتورّع عن استغلال الدين تارة، وفلسطين تارة أخرى، والكرامة العربية حين يلزم، لتسويق حرب نفسية تستهدف الشعوب قبل الأنظمة. وكما يُقال في علم الاتصال السياسي، فإن أخطر الأكاذيب هي تلك التي ترتدي قضايا عادلة. وهذا ما حدث تمامًا حين تم تحويل القضايا المقدّسة إلى أدوات لإسقاط الدول من الداخل.

وبلا شك، فإن ما جرى سيجبر الحكومات العربية على مراجعة منظومتها الأمنية الرقمية، وعلى تطوير استراتيجيات جديدة لحماية الرأي العام من الاختراق. كما أنه سيعيد فتح النقاش حول ضرورة وجود إعلام وطني مهني قادر على مواجهة حملات التضليل دون السقوط في خطاب التخوين أو الشعبوية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.