: آخر تحديث

الإصلاح مصلحة فلسطينية قبل أن يكون مطلبًا دوليًا

4
4
3

منذ إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، وهي تتعرض بشكل دائم للهجوم في محاولات بائسة للتقليل من ما تقوم به وعلى كل المستويات، وتزداد شدة تلك المحاولات مع تطور أداء السلطة وزيادة اقترابها من تحقيق هدفها الأسمى، فلا يريد أن يرى الكثيرون التطور الكبير الذي حصل في فلسطين منذ إنشائها في عام 1994 وفي كل المجالات بالرغم من واقع الاحتلال وما يشكله من معوقات في طريق ذلك التقدم.

مع تشكيل حكومة الدكتور محمد مصطفى بدأت مرحلة مفصلية هامة في عملية الإصلاح والتطوير عُرفت لاحقًا باسم "البرنامج الوطني للتنمية والإصلاح"، حيث بدأت عملية جدية في هذا المضمار، ويأتي ذلك في إطار استمرارية برامج الإصلاح التي قامت بها الحكومات المتعاقبة والتي كتب لبعضها النجاح ولم يكتب للبعض وظل في إطار المحاولة الدائمة للتطوير والإصلاح.

يمر شعبنا منذ أكثر من عامين بمرحلة خطيرة تهدد وجوده واستمرار صموده على أرضه وانهيار كل ما تم إنجازه في إطار مشروعه الوطني، وأصبح لزامًا علينا العمل وبسرعة للسير في خطة إصلاح طموحة تلبي مطالب شعبنا ومصلحته أولًا وتتوافق في نفس الوقت مع مطالب دولية عديدة ترى أنها تشكل خطوات إجبارية في مسار تحقيق الدولة والتي نتفق مع بعضها ونختلف مع العديد منها، وقد عبر الرئيس محمود عباس في خطابيه الأخيرين أمام مؤتمر تنفيذ حل الدولتين وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن التزام القيادة الفلسطينية بخريطة طريق شاملة تستهدف إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وذلك عبر رؤية وطنية فلسطينية تشمل إصلاحًا متكاملاً للنظام السياسي والمؤسسات، حيث أشار أن هذه الرؤية تشهد تقدمًا سريعًا نحو الإصلاح السياسي والمؤسسي وإحياء العملية الديمقراطية، لا سيما في هذه المرحلة المحورية من تاريخنا.

وهنا أعتقد أنه يجب الوقوف قليلًا للنظر في ماهية الشخصية التي اختارها الرئيس محمود عباس هذه المرة لتولي هذه المهمة المفصلية في تاريخ الشعب الفلسطيني للنظر في قدراته وجدية وقابلية هذه الخطة للتنفيذ في ظل المعطيات الحالية.

الدكتور محمد مصطفى، مستقل، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس الدائرة الاقتصادية لها، من فلك التكنوقراط، تولى مهام كثيرة قبل أن يناط به تولي رئاسة الحكومة في هذه المرحلة الحساسة، هذا الرجل عرفته عن قرب خلال سنوات عملي في رئاسة الحكومة وفي الرئاسة، براغماتي من الدرجة الأولى، عمل في مجموعة البنك الدولي لأكثر من 15 عامًا، كما عمل مستشارًا اقتصاديًا لحكومة الكويت ومستشارًا لصندوق الاستثمار الوطني السعودي، وأستاذًا زائرًا في جامعة جورج واشنطن قبل أن يلتحق بالمؤسسة العامة، رافق الرئيس في الكثير من الزيارات الدولية الهامة وخصوصًا فيما يتعلق بالشق الاقتصادي منها، وتولى رئاسة صندوق الاستثمار الفلسطيني قبل أن يتولى منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد الوطني في ثلاثة حكومات متعاقبة، وعمل خلال توليه رئاسة صندوق الاستثمار على إعادة توطين الاستثمارات الفلسطينية للداخل الفلسطيني، وبالتالي عزز من مواكبة القطاع الخاص للقطاع العام في إنشاء فرص العمل وتعزيز الاقتصاد الداخلي عبر المشاريع المختلفة وقد لفتني في وقتها مشروع عبقري يقضي بإنشاء وربط شبكات طاقة شمسية على أسطح المدارس الحكومية لتوفير الطاقة المجانية للمدارس وأيضًا بيع الفائض لشركة الكهرباء.

عندما أصبح نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للاقتصاد الوطني عمل على دعم المشاريع المتوسطة والصغيرة، ليشكل بداية لتعزيز الاقتصاد من ناحية دعم المجموعات السكانية المختلفة لتصبح شريكًا وفاعلًا أساسيًا في تنمية الاقتصاد الوطني. وعلى الرغم من سياسات الاحتلال الإسرائيلي إلا أن تلك المبادرات لاقت نجاحًا بما أحدثته من آثار عادت بالنفع على طبقة واسعة من الشعب الفلسطيني. لذلك أعتقد أن هذه الخلفية من حيث المبدأ تشكل أوراق اعتماد لهذه الشخصية لتكون محورية في رؤية الرئيس والشعب الفلسطيني، قادرة على قيادة فريق من الخبراء لوضعها موضع التنفيذ في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ قضيتنا.

أعود الآن للخطة، ومدى المصلحة الفلسطينية الماسة لها قبل أن يكون هناك مطالب دولية تفرض تنفيذها. فتلك الخطة متكاملة العناصر تعتمد في أساسها على الواقعية السياسية للرئيس محمود عباس ولرئيس وزرائه، والتي تشكل نهجًا عمليًا في اتخاذ القرارات وحل المشكلات وتركز على النتائج والمصالح المباشرة بناءً على الواقع المتغير، بدلًا من الالتزام الصارم بالمثاليات المجردة أو الأيديولوجيات العاجزة. وعليه فإنها تتعامل مع القضايا انطلاقًا من المواقف الحالية، وما هو ناجع وفعال لتحقيق الأهداف المحددة، من خلال التركيز على الحلول العملية والمرنة، وما تحقق من نتائج: على اعتبار أن المعيار الأساسي لنجاح أي سياسة هو مدى تحقيقها للمصلحة أو المنفعة المرجوة، سواء كانت استقرارًا سياسيًا، نموًا اقتصاديًا، أو حلولًا لمشاكل عملية.

تتكون الخطة أو برنامج الإصلاح التي يعد برنامجًا مشتركًا يعمل على تنفيذه بتكامل كل من الرئيس وحكومته وفي تناغم يدل على وحدة الرؤية والهدف وطريقة ومدة التنفيذ، فهي تتكون من عدة مبادرات تنموية تقوم على أربعة ركائز أساسية، وهي: السياسة المالية وإدارة المالية العامة، والحكم وسيادة القانون، والاستثمار وتحسين بيئة الأعمال، وتحسين تقديم الخدمات الأساسية. وتضم حتى الآن قرابة 60 إجراءً إصلاحيًا، اكتمل تنفيذ أكثر من نصفها، بينما يجري العمل على تنفيذ الإجراءات المتبقية.

ففي مجال السياسة المالية وإدارة المالية العامة والتي ألقت الظروف السياسية الصعبة بظلالها على الموارد المالية وأثرت عليها بشكل خطير، ولا سيما من خلال حجب عائدات المقاصة من قبل إسرائيل، فقد اعتمدت الحكومة تدابير إصلاح مالية وتقشفية مهمة في مجالات متعددة لتجنب مخاطر الانهيار المالي الشامل، وذلك يتعلق بسياسة الإنفاق العام، وتعزيز قدرة الحكومة على زيادة الإيرادات من المصادر المحلية عبر تحسين إدارة الضرائب، واستدامة المالية العامة عبر تحديث نظام المعاشات التقاعدية، واعتماد وتنفيذ خطة لسداد المتأخرات، وإعادة هيكلة الدين العام، وتحديد هدف واقعي لعجز الموازنة.

وفي إطار الحوكمة وسيادة القانون والذي يُشكل أهم عناصر بناء الدولة، فقد جاء الشق الرئاسي منها باستحداث منصبي نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ونائب رئيس دولة فلسطين لتفادي أي فراغ سياسي، ومن جهة الحكومة فقد عملت على تدعيم أسس التعاون بين السلطتين التنفيذية والقضائية، بما يضمن العدالة وحماية حقوق وكرامة المواطن الفلسطيني وتعزيز الكفاءة والشفافية من خلال اعتماد خطة لتوحيد وتحسين حوكمة المؤسسات العامة، بالإضافة إلى اعتماد الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد (2025 – 2030)، وعملت أيضًا على تعزيز الحوار والتشاور مع المجتمع المدني بشأن القضايا القانونية والسياساتية الرئيسية، وأصدرت قوانين تتعلق بمواكبة التطورات التكنولوجية والامتثال للمعايير الدولية، وفي نفس الإطار حلت أو دمجت عدة مؤسسات حكومية غير وزارية لتعزيز الكفاءة.

وكذلك فإن الخطة تعزز البيئة القانونية والتشريعية استعدادًا للانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية التي ستجري في غضون عام من انتهاء الحرب على غزة، حسب الظروف الميدانية، فأصدرت قوانين تتعلق بانتخابات مجالس السلطة المحلية، وتخفيض سن الترشح إلى 23 عامًا لتوسيع مشاركة الشباب، بالإضافة إلى آليات لزيادة تمثيل المرأة وتحديد الإجراءات التقنية لضمان سير العملية الانتخابية بشفافية ونزاهة وفق المبادئ الديمقراطية، وكذلك قانون جديد للأحزاب السياسية، لتنظيم الحياة السياسية، مما يمهد الطريق لإجراء الانتخابات العامة تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية ووفق التزاماتها الدولية.

ومن جهة أخرى صياغة مسودة لدستور مؤقت لدولة فلسطين، امتدادًا لمسودات الدستور المقترحة سابقًا من عام 2003 حتى 2016، والتي سيتم العمل على هذه المسودة مع الجمهورية الفرنسية في إطار تحسينها والاستفادة من خبرة فرنسا في هذا المجال.

وبالتوازي، تعمل اللجنة المركزية للانتخابات مع اللجنة التحضيرية لانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، حول المراحل التحضيرية للانتخابات المقبلة. حيث وضعت الهيئتان تصورًا مبدئيًا للمراحل التشغيلية لانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، بما في ذلك التحضيرات التقنية واللوجستية المطلوبة لضمان نجاح العملية الانتخابية وكذلك إطار العملية الانتخابية بشكلها العام.

وفي إطار الاستثمار ومناخ الأعمال فقد عملت على تحفيز الاستثمار في البنية الأساسية لدعم النمو الاقتصادي المستدام من خلال تعزيز قطاعات النقل والطرق والطاقة والمياه، وتحسين بيئة الأعمال لجذب المزيد من الاستثمارات وتنفيذ خطط التحول الرقمي في تنفيذ الخدمات والمدفوعات، وتطوير البيئة القانونية والتنظيمية، وتعزيز دور المحاكم المتخصصة في حل النزاعات التجارية، وإنجاز قانون التجارة الإلكترونية، بالإضافة إلى العديد من الإجراءات والقوانين ذات العلاقة والتي تهدف لتعزيز البنية القانونية والتنظيمية. أما فيما يتعلق بالوصول إلى التمويل فقد عملت على إنجاز التقييم الوطني لمخاطر جريمتي غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والاستراتيجية الوطنية والقطاعية لمكافحة غسيل الأموال للأعوام 2025-2028، بهدف حماية مقدرات الاقتصاد الوطني الفلسطيني.

أما بالنسبة لتقديم الخدمات الأساسية، فقد جاءت المجالات الرئيسية للإصلاح في كل القطاعات تقريبًا، المياه والطاقة والصحة والاتصالات والتعليم والحماية الاجتماعية والتي في مجملها تتعلق بتحسين جودة الخدمات ورقمنتها وتوطين الخدمات الأساسية المتعلقة بالصحة، وتعزيز التحول الرقمي بجميع أشكاله، وتبني معايير موحدة في مجال الحماية الاجتماعية، وإضافة أكثر من 26 مادة تعليمية جديدة على منصة التعلم الإلكتروني.

وعليه من الممكن القول إن القيادة الفلسطينية وعلى كل مستوياتها تستلهم من قصص نجاح كثيرة لدول شقيقة وصديقة في تطوير وتعزيز الأداء للوصول لأقصى درجات التطور المطلوب للنظام السياسي وبيئته الإدارية والتنظيمية والتشريعية التي تصب في خدمة شعبنا والتي أرى بموضوعية أننا أصبحنا فيها نتفوق على دول مستقلة من عقود، بالرغم من أننا لا نزال نقبع تحت الاحتلال الإسرائيلي البغيض، وهو ما أكدته سابقًا المؤسسات الدولية التي أصدرت تقاريرها حول قدرة وجهوزية مؤسسات السلطة الفلسطينية أن ترتقي لمؤسسات دولة مستقلة.

وأختم بالقول، بأنني ومن خلال متابعتي الحثيثة للشأن السياسي الفلسطيني، والخطوات الكبيرة التي يقوم بها الرئيس عباس على المستوى الدولي لجعل موضوع الإصلاحات يتناغم مع المطالب الدولية ولكن برؤية فلسطينية خالصة تراعي المصلحة الفلسطينية أولًا، وما تقوم به الحكومة لتنفيذ ذلك بمهنية وسرعة تحسب لها، تزداد ثقتي وإيماني بقرب إنجاز استقلالنا وأن الدولة الفلسطينية القادمة ستكون دولة عصرية ومتطورة وقادرة على أن تكون نموذجًا يحتذى به في مصاف الدول المتقدمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.