رأس جبل جليد الفتنة الأخطر الذي يطل على المشهد السياسي السوري يتجلى بفتنة الاتجاهات العقدية، وعلى الرغم من ما يعانيه المجتمع السوري في ظل الدولة الجديدة من نزاعات سياسية وإثنية وثقافية، فإن نقل النزاع إلى داخل الاتجاه العقدي الواحد هو الأخطر بالإطلاق على استقرار الدولة السورية.
طرح مؤخرًا أحد مناصري اتجاهات الحكومة الجديدة قضية لها تداعياتها الكبيرة على بنية المجتمع السوري في غالبيته الدينية السنية حصراً. تتخلص هذه الفتنة العقدية بطرح مقولة فضح شبكة دينية خطيرة على دمشق (تحالف سياسي ديني بين حافظ الأسد وأحمد كفتارو، والسياسي الشيوعي خالد بكداش، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي). وهذه القضية ليست يتيمة الحقيقة، فهي ظاهرة لها مساحتها الإشكالية في تاريخ التحالفات السياسية الدينية بسوريا في تلك المرحلة.
استند منشئ هذه القضية بصيغة الفضيحة إلى نبش تاريخي يسوقه في سياق تخويني، وإن كان يكشف عن ظاهرة لها وجودها التاريخي، لكن تيارًا واسعًا يرفض زجها في سياق منهجه التخويني. المشكلة تتجلى بأن هذا التلاقي الظاهري حدث فعلاً، وسنسوق سرديته التاريخية بحياد موضوعي، فقد أمضى الشيخ أحمد كفتارو أربعين عامًا مفتياً عامًا للجمهورية (1964 – 2004).
الشيخ أحمد كفتارو هو سوري من أسرة كردية عريقة ولد في دمشق سنة 1911، وكان امتدادًا لأبيه شيخ الطريقة النقشبندية التي انتشرت بدمشق في تلك الحقبة، ويقال سميت بهذا الاسم لأن أتباعها "ينقشون كلمة الله على قلوبهم".
عرف كفتارو بخلافه الشديد مع زعيم الإخوان المسلمين آنذاك مصطفى السباعي، الذي وصفه في كتابه "هكذا علمتني الحياة" بـ"شيطان يتظلّم" من غير أن يذكر اسمه، مما يدل على أن الصراع السياسي نشأ باكرًا بين اتجاه كفتارو والإخوان. ولم يلبث أن وصل إلى مرحلة يصعب إخراجها في سياق ديني حين أُجريت الانتخابات البرلمانية السورية سنة 1954، إذ طلب كفتارو من أنصاره وأتباعه أن ينتخبوا الشيوعي الكردي خالد بكداش، وفاز الأخير بثقل حملة أنصار كفتارو وأتباعه، وزاد في ذلك تصويته للبعثي رياض المالكي ضد السباعي الإخواني، مما استفز رابطة العلماء المسلمين آنذاك وزاد عداءهم لكفتارو، وفاقم هذا العداء ترجيح كفة كفتارو على "حسن حبنكة" أهم شيوخ دمشق آنذاك في انتخابات المفتي من قبل البعثيين ولجنتها العسكرية بمن فيهم حافظ الأسد.
ظهر جليًا نفوذ كفتارو في زمن حافظ الأسد حين استولى على السلطة بانقلاب عسكري ودعم خفي من رجال طائفته العسكريين، ودعّم موقفه بالاستناد إلى تيار من تجار دمشق يؤيدون الأسد في تثبيت حكمه، ولم ينس السوريون صورة كفتارو على يمين حافظ الأسد عند دخوله الجامع الأموي بصفته أول رئيس بعثي علوي يدخل جامع بني أمية. ويظهر كفتارو وتياره في مجموعة الأحداث التي أوصلت الأسد إلى الحكم، ثم أسهمت في تثبيته حليفًا سياسيًا وداعمًا شرعيًا له، بتعبير أدق أكسبه غطاءً شرعيًا مزيفًا بنظر مناوئي استيلاء الأسد على السلطة.
أمّا خالد بكداش (1912 – 1995)، فهو سياسي سوري من أصل كردي، نظّمه في الحزب آنذاك الشيوعي فوزي الزعيم (1931)، وما لبث بكداش أن تدرّج في سلم الحزب القيادي فتبوأ تنظيم دمشق، وبعد عامين من انتسابه غدا الأمين العام للحزب الشيوعي السوري اللبناني، ثم درس في موسكو، وإثر عودته فعّل نشاطه الحزبي، وحالف حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا عام 1936 برئاسة "ليون بلوم"، وأيد الحكومة الفرنسية في دمشق ودعا إلى عقد معاهدة تؤدي إلى استقلال سوريا.
تحالف بكداش مع تيار أحمد كفتارو والبعثيين في الانتخابات البرلمانية السورية عام 1954، وفاز بمقعد في دمشق، فكان أول شيوعي برلماني في الدول العربية. ثم تحالف مع حزب العث في تشكيل ديكور ذهبي مزيف للديمقراطية بصورة الجبهة الوطنية التقدمية التي أسسها حافظ الأسد سنة 1972، وظل عضوًا قياديًا فيها حتى وفاته، وورث قيادة الحزب وعضوية الجبهة لزوجته وصال فرحة، ثم لابنه عمار بكداش إلى أن سقط الأسد وحلت الجبهة.
كان خالد بكداش وحزبه ومن ورثه فيه طوال مسيرتهم يمنحون الأسد شرعية مزيفة للتعددية الحزبية، ويزورون شرعيته الديكتاتورية. وكان التخادم السياسي بين الأسد وبكداش وكفتارو مستمرًا طوال حقبة الديكتاتورية.
وأبرز مظاهر هذا التخادم تجلت أثناء انطلاق الثورة السورية إذ انحاز الحزب إلى الحل الأمني الذي اعتمده بشار الأسد، وشاركه في الترويج لفكرة "المؤامرة الاستعمارية"، وتجاهل أسباب الاحتجاجات، وقمع السلطة الوحشي لها، وطابقها في وصف الثورة الشعبية بـ"الإرهاب" و"المؤامرة" الهادفة إلى إسقاط نهج النظام المناهض لمشاريع الهيمنة الإمبريالية والصهيونية، وروجت البكداشية لمشروعية الأسد في مجازره. ولم يعهد للحزب الشيوعي منذ تأسيسه أية مواقف تجاه الأحداث الوطنية والقومية قائمة على منطلق وطني، بل كان متماهياً مع السياسة الديكتاتورية للبعث والأسدين.
أما ثالثة أثافي التخادم الديني السياسي في حقبة الأسديين فكان الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (1929 – 2013)، وهو عالم دين سوري كردي وأستاذ جامعي بدأ ظهوره الإعلامي بدعم من حافظ الأسد في التسعينات، وكان في ما سبق ينحو منحى أكاديميًا نخبويًا إلى أن أجرى مناظرة مع الدكتور اليساري العلماني الطيب التيزيني، فحقق شعبية كبيرة، وانتقل إثرها من التوجه النخبوي إلى الشعبوي، وتماهى مع سياسة حافظ الأسد وشخصيته القيادية، فتحول إلى داعية بصيغة تقديسية لسلطته، وإكسائه بصفات فوق البشرية في كلماته، وتمادى في تأييد حكمه ومواقفه السياسية إلى أن ناصر ابنه بشار ضد الثورة السورية التي اندلعت سنة 2011، وناصب العداء للثوار، وأفتى بخروجهم من الملة، وأيد ضربهم من قبل جيش النظام ومخابراته والمليشيات الطائفية المساندة له بيد من حديد، ولم يظهر أي تعاطف مع ثورة الشعب السوري، والمجازر التي تعرض لها الشعب الأعزل وتهديم بيوته ومساجده، وبقي البوطي عنيدًا على موقفه إلى أن توفي بحادثة تفجيره في المسجد من غير أن تعرف الأيدي الآثمة التي اغتالته، وتبادل حينها النظام والثوار الاتهامات.
استثمر الأسدان في الغطاء الديني الذي وهبهما إياه البوطي في آرائه الدينية ومواقفه عموديًا وأفقيًا محليًا وإقليميًا ودوليًا، وتسلح بهما على أنهما شرعية دينية تسوغ محاربتهما للثورة.
بعد سقوط النظام انفك عقد التحالف السياسي بين تلك التيارات (نظام الأسد، تيار بكداش، تيار كفتارو، تيار البوطي). غير أن الدولة الجديدة احتوت في بنيتها على دولة عميقة يمثلها التيار السلفي الجهادي الذي ينازع الحكومة الظاهرة في عداء تيار نظام الأسد وحلفائه، بينما تذهب الحكومة الظاهرة إلى مظاهر الدولة، وتذهب الحكومة العميقة إلى أسس الإمارة السلفية، وانتشرت حالات الثأر من عناصر النظام في غياب سياسة واضحة تمثل العدالة الانتقالية.
أما الخطر الأكبر على المجتمع السوري فهو المناخ الذي نشأ بنشوء الدولة الجديدة مستفيدًا من طابعها الإسلامي. فقد أتاح هذا المناخ المجال للتيارات الدينية في المجتمع إلى استعادة التناحر التاريخي بين الطوائف، وبين تيارات السنة، ولا سيما السلفية والصوفية والأشعرية، وكان موقف الصوفية الذي مثله كفتارو والبوطي من نظام الأسد والثورة غنيمة ذهبية للسلفية في محاربتها مستغلة مواقفها السابقة في عدائها للثورة وتأييد الأسد في تشريع مناحرتها.
بدأ أنصار السلفية التحشيد للصراع والهجوم على تلك التيارات بحجة تواطئها مع النظام وتشريع حربه للشعب السوري، والخطير في الأمر أن تيار الصوفية ذاك يبرر موقفه السياسي من مبادئ أن السياسة في فقه نجاسة وتحريم الخروج على الحاكم الذي يتحول إلى فتنة، حيث يجر الإصلاح مفاسد كبرى لا تجوّزها من مبدأ درء الفتنة والمفسدة.
ثمة غلت هذه التيارات في الدفاع عن مواقفها، والتبرؤ من تهمة التحالف مع النظام ومناصرته، معتمدة على فقه في التعامل مع السياسة، وتشريف الدين بتخليصه من السياسة، وهذا المنطق يعارض اتجاه السلفية في التعامل السياسي الجهادي مع الحكام. وهذه قضية معقدة متنازع عليها بين الطرفين، ولذلك سيقود هذا الصراع المجتمع السوري إلى مزيد من النزاعات والصراعات والتناحر التي تعصف بالنسيج الاجتماعي السوري، لأن لكلا التيارين فقهه المخاصم للآخر، وفي الوقت نفسه، لكلا التيارين أتباع تناصر ممثليها وتتمسك بمنهجهم حد التقديس وتسويغ الجهاد في مناصرته، وتلك فتنة لا يجف شريانها في المجتمع السوري، وهي دعوات تطل حاملة أفكار تصارع تاريخيًا جذريًا، فليست هي إلا رأس جبل جليد عظيم الفتنة لا مظاهر طارئة.


