جمال عبد الناصر كان من الزعماء القلائل عبر التاريخ الذين وصلت شعبيتهم إلى حد التقديس، بل والتأليه، ووصل الإعجاب به إلى درجة الهوس، وحتى الآن يوجد من يعبدونه ويقدسونه على مواقع الاتصال الاجتماعي، بالرغم من "البلاوي" التي ارتكبها والتي كان من أبرزها هزيمة 1967 التي أدت إلى ضياع القدس وباقي فلسطين وسيناء وهضبة الجولان، وما زلنا حتى الآن نعاني آثار تلك الهزيمة المذلة.
في إحدى اجتماعاته الجماهيرية التي كان يبرز فيها الكاريزما المذهلة له، قال: "قررنا زيادة سعر كيلو الرز عشان تقليل الاستهلاك"، وهتفت الجماهير: "ناصر… ناصر". وانتظر حتى هدأت هتافات الجماهير ثم قال: "ولكن لقينا أن رفع سعر الرز يضر جداً الطبقة الفقيرة لذلك قررنا إلغاء قرار رفع سعر الرز"، فهتفت الجماهير مرة أخرى: "ناصر… ناصر".
وكنت أعتقد أنَّ شعبية عبد الناصر سوف تهتز بعد أن فشلت الوحدة مع سوريا، أو بعد فشل حملة اليمن، ولكنها لم تهتز أبداً، بل عندما حدثت هزيمة 1967 كان الكثيرون يعتقدون أنَّ هذه هي نهاية عبد الناصر، ولكنه عاد ورقصت الجماهير في الشوارع لعودته ولم تبرد بعد دماء ضحايا الهزيمة.
واعتقدت وقتها أن عبد الناصر "عامل عمل" للمصريين والعرب حتى أن جنازته في القاهرة كانت من أكبر الجنازات التي شهدها التاريخ.
…
وعشت لكي أشاهد دونالد ترامب (الطبعة الثانية) أقوى من الطبعة الأولى، فقد نجح باكتساح وفاز بأغلبية الأصوات (75 مليون ناخب). ومنذ جاء إلى الحكم هذه المرة تجاهل الكونغرس وبعض أحكام القضاء وبعض الاتفاقيات الدولية التي وقعتها أميركا، وأخذ في التصرف وكأن أميركا هي إحدى شركاته.
ولي بعض الأصدقاء الأعزاء من المغرمين بترامب إلى حد التقديس، فعندما قال ترامب (قبل تأييد إيلون ماسك له): "إنَّ أميركا ليست بحاجة إلى سيارات كهربائية"، قال أصدقائي: "والله عنده حق".
ولما أصبح ترامب صحبة مع ماسك وبدأ حملة دعائية للسيارات التسلا الكهربائية في حديقة البيت الأبيض، عندها قال أصدقائي: "يا سلام على السيارة تسلا الكهربائية، وخاصة أن ترامب يقودها وبجواره ماسك".
وعندما اختلف ماسك مع ترامب بسبب فيلم "الميزانية الكبيرة والجميلة" بطولة وإخراج ترامب، بدأ ترامب في مهاجمة السيارات الكهربائية مرة أخرى وقال باستنكار: "من هذا الذي يحتاج سيارة كهربائية"، ونسى أنه قبل شهر واحد كان يسوّق للسيارة الكهربائية، وأيضاً أيّده أصدقائي في الهجوم على السيارة الكهربائية.
في 23 كانون الثاني (يناير) عام 2016 قال ترامب في مؤتمر انتخابي في ولاية آيوا بالحرف الواحد: "I could stand in the middle of Fifth Avenue and shoot somebody, and I wouldn’t lose any voters" أي ما ترجمته: "بإمكاني الوقوف في شارع فيفث أفينيو في نيويورك وأطلق النار على شخص ما، ولن يؤدي هذا إلى فقدان أي من ناخبيني".
وبالفعل لم يفقد ناخبيه، بل ازدادوا عدداً. صحيح أنه لم يطلق النار على أحد، ولكن ناخبيه يقدسونه بالفعل.
وفي حديث لي مع صديق آخر من كارهي ترامب، قلت له: التفسير الوحيد عندي لهذا التقديس المطلق وخاصة من مجموعات ناخبين معظمهم من رجال الأعمال المحترمين وكثير من المثقفين، هو أن ترامب "عامل لهم عمل"، وأخذ صديقي يضحك، فقلت له: "ده التفسير المنطقي والوحيد".
وطلبت منه أن يحضر لي أي "أثر" من ترامب، مثل خصلة من شعره أو منديله بشرط أن يكون قد استخدمه من قبل، وأنا مستعد للتواصل مع بعض المشعوذين في مصر أو المغرب والمعروف عنهم أنهم يستطيعون فك السحر أو "فك العمل"، لكي أنقذ أصدقائي من تأثير هذا السحر.
وفي مقابل الـ75 مليون أميركي المغرمين بترامب هناك حوالى 70 مليون أميركي لا يطيقون سماع اسمه، من بينهم كل أفراد أسرتي، وخاصة ابنتي الكبرى، التي لا أستطيع أن أذكر أمامها أي ميزة من مميزات ترامب أو أي قرار أو إجراء جيد يكون قد قام به، لأني لو تجرأت وذكرت ذلك أمامها لخاصمتني (ربما للأبد).
ولست أدري "مين عامل عمل" لابنتي ولأسرتي وملايين غيرهم لكي يكرهونه لهذه الدرجة ويرفضون رؤية أي شيء جيد يكون قد قام به.
وهذه مأساة كبيرة في أميركا، هذا الانقسام الخطير، لدرجة أنَّ هناك من الأميركيين من يتمنى انهيار الاقتصاد الأميركي لمجرد الشماتة بترامب.
فمن يعرف ساحراً يستطيع فك "عمل" ترامب من دون الحصول على أثر منه فليتواصل معي.