: آخر تحديث

في سوريا.. إعفاء استهلاك الكهرباء من الرسوم

1
0
1

 

إصدارُ مرسومٍ يقضي بإعفاء استهلاك الكهرباء من جميع الرسوم المالية والإدارية التي كانت تصل إلى 21.5 بالمئة، لم يكن الأمر مجرد تعديل في فاتورة، بل بدا وكأنه محاولة لإعادة التوازن إلى علاقة الإنسان السوري مع بيته، مصنعه، متجره، وحتى أحلامه.

الكهرباء ليست مجرد تيار يمرّ عبر الأسلاك، بل هي المعادل الحضاري للحياة الحديثة. إنها الضوء الذي يبدّد عتمة المنازل، والدوران الذي يحرّك ماكينات المصانع، والنبض الذي يحفظ للمدن إيقاعها. وحين تخفّف الدولة من أثقالها المالية، فإنها لا تُعفي المواطن من رسم، بل تفتح له نافذة أوسع نحو العيش الكريم والإنتاج الممكن.

لا يمكن قراءة المرسوم في عزلة عن السياق السياسي والاجتماعي. فالاقتصاد السوري، الذي أثقلته سنوات الحرب والعقوبات، يحتاج إلى مبادرات تعيد إليه مرونته. تخفيض أسعار الفيول والغاز في وقت سابق، ثم إلغاء الرسوم على استهلاك الكهرباء، يشكّلان سلسلة مترابطة من محاولات لفتح كُوّة في جدار الكلفة العالية التي كبّلت المصانع والتجّار والأسر.

المسألة أعمق من مجرد أرقام تُشطب من خانة الفاتورة. فحين تُخفّض كلفة الطاقة في البيت، ينعكس ذلك على المصنع والمتجر والسوق. فالمجتمع ليس جُزراً منفصلة، بل نسيجاً متشابكاً؛ أي نفقة تُخفّف في زاوية ما، تُلقي بظلالها على كامل اللوحة الاقتصادية.

القرار، وإن بدا فنياً، يحمل بُعداً نفسياً عميقاً. في مجتمع أنهكته التكاليف، كل مبادرة تخفيف تُعيد للناس شيئاً من الطمأنينة. المواطن العادي، حين يرى أن قيمة الكيلو واط أصبحت واضحة ومحددة، يشعر بأنه قادر على تنظيم حياته، والتنبؤ بمصاريفه، والوثوق بأن الدولة لا تقف على الضفة الأخرى كخصم، بل كطرف يسعى للتوازن.

إن تخفيف الأعباء عن الصناعيين لا يعني فقط إنتاجاً أكبر، بل يعني أيضاً مزيداً من فرص العمل، وارتفاعاً في معدلات التوظيف، وما يستتبع ذلك من ضرائب دخل وأجور، وحركة مالية واجتماعية تدور في حلقة إيجابية. وبذلك، يتحول المرسوم إلى جزء من شبكة معقدة توازن بين الدولة والمواطن ورجل الأعمال، بين الاستهلاك والإنتاج، بين العبء والضوء.

الكهرباء ليست مجرد مسألة مالية، بل هي أيضاً مسألة معمارية. فالمصانع التي تُضاء ليل نهار تنتج عمراناً اقتصادياً لا يقلّ أهمية عن العمارة الحجرية. وكل منزل يُضاء بفضل هذه القرارات يُسهم في الحفاظ على صورة المدينة نفسها: مدينة تنبض، لا مدينة خامدة.

لكن، الطريق ما زال طويلاً. فحتى بعد الإعفاء من الرسوم، يبقى سعر الكيلو واط مرتفعاً (15 سنتاً)، مقارنة بدول الجوار. وهذا يعني أن استعادة الصناعة السورية لألقها التاريخي تتطلب خطوات إضافية: إعادة النظر في التسعير، دعم الإنتاج الموجه للتصدير، ومواجهة الفاقد الكهربائي الذي يبتلع نحو 40 بالمئة من الطاقة المنتجة.

في السياق التاريخي، لطالما كانت الكهرباء مؤشراً على مكانة الأمم. المدن التي أضاءت شوارعها في بدايات القرن العشرين بدت كأنها دخلت المستقبل قبل غيرها. واليوم، حين تُعفى الفاتورة من رسومها الثقيلة، فإن الرسالة ليست تقنية فقط، بل حضارية: أن الدولة لا تزال تُدرك أن الطاقة هي الجسر بين الماضي المتعب والمستقبل الممكن.

في نهاية المطاف، يبدو المرسوم خطوة في مسار طويل من التكامل الاقتصادي والاجتماعي. فهو لا يُخفّف العبء فقط، بل يعيد توزيع الأمل. من البيت إلى المصنع، من المصباح الصغير إلى الآلة الثقيلة، تمتدّ شبكة الكهرباء لا كخطوط فولاذية فحسب، بل كخيوط ناعمة تشدّ أوصال المجتمع.

إنها ليست مجرد فاتورة تُلغى رسومها، بل لوحة كاملة تُرسم بالضوء: لوحة يُشارك فيها العامل والتاجر، المهندس والطالب، ربة المنزل والصناعي. وحين تضاء هذه اللوحة بالكهرباء الأرخص والأوضح، فإنها لا تُنير الجدران فحسب، بل تُضيء وجوه الناس، وتعيد إليهم ثقة بأن غداً قد يكون أقل عتمة وأكثر إشراقاً.


 

 

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.