: آخر تحديث

‏يقولون أين أنت؟

3
2
2

‏يقولون: "أين أنت؟"، في نبرة لا تخلو من لومٍ يعتقد صاحبه أنه يمتلك حقًا في محاسبتي. يسألون وكأن الرحيل بعد أربعين عامًا من العطاء جحودٌ، وكأن حب البلاد يُقاس ببعد المسافات لا بعمق الانتماء في القلب.

‏الحقيقة التي يرفضون إدراكها هي أن الوطن ليس إحداثيات مكانية نُسجّل فيها عنوان إقامتنا الجديدة، بل هو مساحة رحبة في الوجدان والذاكرة. هو الذكرى التي تسكن الروح، والوجع الذي يُقاس به الوفاء، والفرح الذي يُحتفى به من دون ضجيج. خدمت وطني بكل إخلاص، سنواتٍ طويلة من العمل الدؤوب، واجهت فيها التحديات وكان بعضها مرهقًا للنفس، وكل ذلك قناعةٍ راسخةٍ وحبٍ صادق.

‏لكن يبدو أن البعض يستكثر علينا حتى حقنا في أن نتنفس. يريدوننا أن نبقى حيث كنا، ليس حبًا في وجودنا، بل ربما خوفًا على راحة بالهم هم. يجهلون أن الابتعاد كان ضرورةً نفسيةً للهروب من "تلك الوجوه الكالحة" – تلك التي كان الابتسام في حضورها يحتاج إلى جهد إضافي، والتي حوّلت بعض أيام العمل إلى معاناة صامتة. وجوهٌ كنتُ مضطرًا لمواجهتها "غصبا عني"، فأصبحت راحتي تكمن في ألا أراها.

‏ما لا يدركه هؤلاء أن العشق الحقيقي ليس في النفاق والمظاهر والكلام المعسول. الحب الحقيقي هو أن تحمل وطنك في دمك أينما حللت، وهو أن تتمنى له التقدم حتى من على بُعد آلاف الأميال.

‏وهنا أستحضر قول الشاعر أبو تمام الذي يختزل كل هذا المشاعر في بيتين خالدين:

‏نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوي
‏ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ
‏كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى
‏وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ

‏نعم، كم منزلٍ أقمنا فيه وألفناه، ولكن الحنين يظلّ أبدًا لأول منزل، لأرض الوطن الأولى. ولو أنني فضيت أو مت في الخارج، فروحي تظل هناك، في التراب الذي ولدت عليه، وفي الشوارع التي درجت فيها، وفي ذاكرة المكان الذي صنعني.

‏هذا الحنين الأبدي هو ما يجعلني، من مكاني هذا، أتابع بلادي وهي تقفز قفزاتٍ تاريخيةً نحو الأمام بقيادة شابةٍ طموحةٍ لا تعرف المستحيل. هذا التحول المُبهج هو ما دفعني لأن أتناول رحلتها في كتابي الجديد (القوة والتحول MBS: قفزات على سطح الوطن)، محاولاً فهم وتحليل هذه النقلة النوعية، وسيصدر قريبًا إن شاء الله.

‏فإلى من يقول "أين أنت؟"، أقول: أنا هنا، جسدي يستريح حيث وجد سلامه، وروحي تحلق هناك حيث انتماؤها الأول. أنا هنا، حيث أكون صادقًا مع نفسي، لأكونَ أكثر قدرةً على العطاء بقلمي وفكري، وهو عطاءٌ أؤمن أن صدقهُ في هذه المرحلة قد يكون أجمل وأبقى.

‏فليسكن كلٌّ منا حيث راحته، وليخدم وطنه حيث وجد طاقته. فالبلد الكبير يستحق منا أن نكون في أفضل حال لنساهم في بنائه، من الداخل أو من الخارج.

‏⁧‫#نافذة‬⁩:
‏الوطن ليس حيث نعيش، بل هو كيف نحب أن نعيش.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.