صدق أو لا تصدق... كما هو معلوم للجميع، فإنَّ ارتفاع معدلات التضخم والتعثر الحكومي في تسديد رواتب موظفي القطاع العام أسهما في تدهور الوضع المعيشي للمواطن الكوردستاني بشكل كارثي ومريع. وحسب "إن آر تي" الكوردية، لجأت سيدة كوردية قابلتها القناة، مع أربعة من زميلاتها إلى بيع حليب أثدائهن بسبب مرورهن بضائقة مادية نتيجة تأخر الرواتب.
وقالت السيدة، وهي أم لطفلين، للفضائية المذكورة: "نحن خمس نساء كورديات لدينا فائض من الحليب، قررنا منذ عام تقريباً أن نبيع حليب أثدائنا لتأمين تكاليف حياتنا العائلية الصعبة، حيث نعاني من الضائقة الاقتصادية بسبب تأخر الرواتب". وأضافت: "هناك رغبة كبيرة على شراء حليبنا من قبل النساء اللواتي لا يستطعن إدرار حليب أثدائهن، أو لديهن نقص في الحليب، وقسم منهن يمتنعن عن الإرضاع حفاظا على رشاقتهن".
ومن الجدير بالإشارة إلى أنَّ شريحة كبيرة في إقليم كوردستان تعاني منذ عام 2015 من مشكلة تأخر صرف الرواتب نتيجة الخلافات المالية العميقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وسلطات الإقليم. وقد قررت وزيرة المالية الاتحادية، طيف سامي، مطلع شهر حزيران (يونيو) 2025 إيقاف تمويل رواتب موظفي الإقليم وبقية المستحقات المالية، بذريعة تجاوز الإقليم حصته المحددة في الموازنة (12.67 بالمئة). الأمر الذي فجر أزمة سياسية كبيرة بين بغداد وأربيل، وما زالت قائمة لحد كتابة هذا المقال.
وقد أثار اللقاء مع هذه السيدة الكوردية عاصفة من التعليقات الصحفية التي وصل بعضها حد نعت الجهات المعنية بتجويع المواطنين وحرمانهم من رواتبهم ومن أبسط حقوقهم المشروعة.
نعم، إنَّ التلاعب بقوت الشعب وحرمانهم من حقوقهم جعل هذه المجموعة من الأمهات الفقيرات يبعن حليبهن من أجل المال وإعالة عوائلهن. وقد يتحولن من خمس نساء إلى خمسة آلاف في المستقبل القريب، في ظل حكومة لا تريد أن ترى أو تسمع أو تتكلم، ولا تهمها مصلحة الشعب الذي لا حول له ولا قوة.
مخاطر الحليب البشري
ويرى خبراء الغذاء والتغذية أن هناك مخاطر كبيرة على حياة الرضع الذين يرضعون من حليب نساء غريبات عنهم، حيث إن المتبرعة (أو البائعة) ربما لا تكون قد خضعت لفحوصات ضد الأمراض المعدية أو مخاطر التلوث. علاوة على ذلك، فإنَّ الحليب البشري ربما لا يكون قد تم حلبه أو تعليبه أو فحصه أو تخزينه بطريقة تقلل من مخاطر سلامة الأطفال. إضافة إلى أنَّ تداول حليب الأم بطريقة تغيب عنها الرقابة الشاملة ينطوي على مخاطر كبيرة، تتمثل في إمكانية انتقال الميكروبات والبكتيريا والفيروسات عبر الحليب، حسب رأي الأطباء والمتخصصين.
بنوك حليب الأمهات
ويبدو الأمر مختلفا عند تداول حليب الأم عبر بنوك حليب الأمهات(1) (European Milk Bank Association) المرتبطة أصلاً بالمستشفيات والمختبرات وخبراء الغذاء والتغذية، حيث يقول كبير الأطباء في مستشفى إرنست فون برغمان في بوتسدام، ميشائيل رادكه: "إنَّ السيدة التي تريد التبرع بالحليب، تُجرى لها عملية فحص دقيق أولاً للتأكد من خلوها من أمراض بكتيرية معدية. وبعد ثبوت سلامتها يقبل تبرعها، ولكن لا يتم إعطاء الحليب لآخرين مباشرة، وإنما يجري تجميد ما تتبرع به في كل مرة. ومع آخر مرة تتبرع فيها تلك السيدة يتم إعادة فحصها مرة أخرى للتأكد من عدم تعرضها للإصابة بأمراض معدية. وبعد التأكد من سلامتها مرة أخرى يمكن منح حليبها لمن يحتاج".
أخيراً، السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل نشهد قريباً في إقليم كوردستان ثورة في صناعة الحليب الآدمي بسبب تفاقم مشكلة صرف الرواتب نتيجة الخلافات المالية العميقة بين الحكومة الاتحادية وسلطة الإقليم؟