: آخر تحديث

إنها مجرد كلمة

4
1
2

ميسون الدخيل

كلمة عجوز تكهرب الجسد كلما سمعها البعض منا، خاصة النساء. أتذكر أن مرة خاطبني أحدهم بــ«يا حجة» وأنا لم أتجاوز حينها السادسة والعشرين من عمري! ليس لأن مظهري الخارجي كان يدل على ذلك، بل لأن المنادي على ما أظن، وأتمنى أن ظني كان صوابًا، كان يستخدم هذا اللقب مع كل امرأة يريدها أن ترد عليه وهي غير منتبهة له. كان الموقف في المطار وأراد المنادي لسبب أو لآخر أن يتأكد من أوراقي الرسمية، ليس مهما كيف تعاملت مع الموقف، لكن الذي حدث أنني انتفضت واستشطت غضًا لمجرد... كلمة! أما اليوم ومع مرور السنين، أصبحت أنظر إلى التقدم في السن لا كعبء، بل كهدية رائعة، فمع كل عام يمر، أجد نفسي أكثر انسجامًا مع ذاتي؛ إنه أشبه بالاستيقاظ صباحًا وإدراك أن الشمس قد أشرقت على فصل جديد من الحياة، مليء بفرص الفرح والتأمل، وحتى بعض المرح! من السهل أن ننشغل بالهموم التي غالبًا ما تصاحب التقدم في السن - أشياء مثل نسيان تواريخ المناسبات أو الأسماء؛ وهذه الأخيرة متلازمة معي منذ الصغر، وآلام المفاصل، وتلك الشعيرات البيضاء الصغيرة التي تظهر فجأة وتتكاثر كل يوم وكأنها تعاند كل مستحضرات الصبغات الأوروبية. ولكن ماذا لو احتفلنا، بدلًا من التركيز على هذه المخاوف، بالحرية التي تأتي مع عيش حياة طويلة؟ ففي النهاية، كل شعرة بيضاء رمز للصمود، وكل تجعيدة تحكي قصة ضحك وحب ودروس مستفادة... ليتني أصغي لنفسي وأهجر الصبغات التي أنهكت كل خصلة من خصلات رأسي! كثيرًا ما أتأمل وأسترجع تاريخي مع الأصدقاء والأحباء الذين رحلوا مبكرًا، والذين لم تتح لهم الفرصة لتذوق روعة الحياة وتنوعها مع التقدم في السن، فهم لم يدركوا أن مع كل تجعيدة حكمة، ومع كل ألم تعاطف، ومع كل عام يمر حرية أن يكون المرء على طبيعته دون اعتذار... يا له من شعور! التحرر من مخاوف التقدم بالسن هو أن تعلم أنه لا توجد وصفة واحدة تناسب الجميع في الشيخوخة! دعوني أحدثكم عن مغامراتي الليلية الأخيرة؛ لقد ولّى زمن الاهتمام بآراء الآخرين، فإذا أردتُ أن أستمع إلى تلك الأغنية التي كنت أستمع إليها في مراهقتي وأدندن معها بصوت لا يوجد به أي معالم للنغم في غرفة معيشتي حتى الثانية صباحًا، فلم لا؟ قد لا تصفق الجدران وربما يشتكي من خلفها، لكن روحي بالتأكيد تنتعش! وبعد أن تسطع الشمس بنورها، لا أتردد في النوم حتى الظهر، مستمتعةً بتلك اللحظات الدافئة في السرير مع كتاب أو من خلال إشباع رغبتي في متابعة الأحداث على منصة (X) وطبيعة ردود الفعل عليها باحثة عن كلمات مفتاحية تمكنني من الغوص في أعماق السايبر لأصل إلى جذور الحدث وتحليل كل معلومة (يجب أن أرضي غريزة المحقق كونان بداخلي) - كل ذلك دون أي شعور بالذنب، بل شعور بالنشوة خاصة كلما توصلت إلى اكتشاف تضليل، تجيش أو فبركات، صدقوني! أما الشاطئ فهو صديقي المُفضّل لو استطعت إليها سبيلا، أصبح من أمنياتي أن أتمشى على طول الشاطئ، أشعر بالرمال تحت قدميّ والأمواج تُقبّل ساقيّ وهي تتلاطم حولي؛ فلا يزال شعور الغطس في مياه البحر يُضحكني كطفلة، سبحان الله كيف يعكس المحيط إيقاع الحياة، مُذكّرًا إيانا بأنه لا بأس أبدًا بركوب الأمواج، حرفيًا ومجازيًا! بالطبع، تمرّ عليّ لحظات نسيان. من منا لا يمرّ بها؟ لكنني تعلّمتُ أن بعض الذكريات من الأفضل تركها وراءنا؛ أُقدّر الأشياء المهمة - حبّ عائلتي، وضحكات أصدقائي الأعزاء، واللحظات الثمينة التي تُثري الحياة بشكلٍ لا يُصدق، قد يكون الحنين إلى الماضي صديقًا مُريحًا، لكنّه بالتأكيد لا يجب أن يطغى على الحاضر المُفعم بالحيوية. كان الحزن جزءًا من رحلتي أيضًا؛ فقد ترك فقدان الأحبة فراغات عميقة في قلبي، لكن تلك الشقوق سمحت بدخول النور، كاشفةً عن القوة والتفهم اللذين اكتسبتهما. نعم، لقد تعلمت أن الحب العميق يعني فتح قلوبنا للألم، ولكنه أيضًا ما يسمح لنا بتجربة فرحة الحياة، قد يكون القلب الذي لم يُكسر سليمًا، لكنه لن يعرف جمال الصمود والتعاطف. أشعر بنعمة عظيمة لوصولي إلى هذه المرحلة من الحياة حيث تزداد اللحظات حلاوة؛ شعري الفضي حتى وإن أخفيته، يظل عاملًا مهمًا في تشكيل ذاتي... إنه تذكير بكل شروق شمس عشته، والضحكات التي نقشت على بشرتي؛ كل خط ضحك منها يجسد لحظة بهيجة - لقطة من حياة كاملة، فأنا أنظر حولي حينها وأدرك أن الكثيرين لم تتح لهم فرصة الشيخوخة؛ كيف لا أقدر إذًا نعمة التقدم في السن؟! إن جمال التقدم في السن مُدهش حقًا؛ فمع التقدم في العمر، غالبًا ما تأتي إيجابية جديدة، يحدث تحولٌ يجعل آراء الآخرين أقل أهمية مما كانت عليه في السابق، أجد نفسي أتخلى عن تلك الحاجة المُلحة للتوافق مع الآخرين أو البحث عن التقدير في أعين الغرباء، هناك حرية مُلهمة في هذا الإدراك، لقد اكتسبتُ الحق في ارتداء حذاء غير متطابق حتى ولو كانت فردة بكعب والأخرى من دون كعب وبلون آخر، والاستمتاع بكل أنواع الحلويات دون الرجوع للميزان والوقوف عليه بقدم واحدة لعل وعسى تنخفض الأرقام المرعبة الصادرة من عينيه الغادرة، واتخاذ قرارات قد تبدو غريبة أحيانًا... على أية حال من حينها يهتم بالنتائج ؟! لقد تقبلتُ حقيقة رائعة - أنا أحب الشخص الذي أصبحتُ عليه؛ لن أعيش إلى الأبد، ولكن ما دمتُ هنا، أرفض قضاء أيامي في التذمر من الماضي أو القلق بشأن ما يخبئه المستقبل، بدلًا من ذلك، أختار أن أحيط نفسي بالضحكات والمحبة، وبالتأكيد سأستمتع بكل أنواع الحلويات كل يوم... مع انقضاء كل فترة من زمن اليوم. لذا، إن كنتَ قلقًا بشأن التقدم في السن، دعني أؤكد لك: إنها رحلة جميلة زاخرة بالنضج والتقبّل، وإدراك مُحرِّر بأنه من حقك تمامًا أن تكون على طبيعتك، بكل ما فيها من عيوب؛ خذها مني فلدي الكثير منها، كل يوم فرصة جديدة للاحتفاء بوجودنا، والشعور بالامتنان، وبالتأكيد، الاستمتاع بقطعة لذيذة من الحلوى. فلنغتنم مزايا التقدم في السن الرائعة، ولنُقدِّر تجاربنا، ولنخطُ بثقة نحو المستقبل، مدركين أن الأفضل لم يأتِ بعد؛ فالتقدم في السن، في نهاية المطاف، ليس مجرد إضافة سنوات إلى حياتنا، بل هو إضافة حياة إلى سنواتنا. فلنحتفل إذًا، بمغامرة الحياة المبهجة، وبكل ضحكة تُنير قلوبنا في رحلة الحياة القادمة!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد