لم يكن مقال الأمين العام لـ"رابطة العالم الإسلامي" الدكتور محمد العيسى، الذي نشره في 25 ديسمبر الجاري، والمعنون "تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد جائزة شرعاً.. وتعكس المقاصد العليا للإسلام" مجرد نقاش فقهي عابر، بل مدخلاً كاشفاً لمشروع أوسع تتبناه "الرابطة" منذ سنوات، وتعمل عليه بمنهجية وإصرار، يهدف إلى بناء العلاقة بين الأديان والثقافات المختلفة على أساس الثقة المتبادلة والتعاون والحوار العقلاني الهادئ، بغية التأكيد على المشتركات الإنسانية والأخلاقية الأوسع!
السؤال في جوهره لم يعد: هل نهنئ أم لا؟ بل، أي صورة للإسلام نريد أن نرسخها في عالم تتكاثر فيه النزاعات وتتمدد فيه خطابات التطرف؟ والإجابة عن هذا التساؤل المهم تقودنا إلى معرفة الرسالة التي جاء بها مقال العيسى، وهي رسالة تتجاوز البعد الفقهي، إلى أبعاد أخرى أوسع.
رغم ذلك، يضع الشيخ العيسى أساساً فقهياً واضحاً حين يؤكد "لا يوجد نص شرعي يمنع تهنئة غير المسلمين بأعيادهم الدينية" وبذلك يسقط الذريعة التي يتشبث بها بعض المحافظين أو المتشددين، فالعيسى بما لديه من علمٍ شرعي، لا يريد للمتزمتين أن يستخدموا الدين كأداة في صراعات هوياتية ضيقة.
العيسى في مقالته يتجاوز الفقه إلى المقاصد الكبرى. فهو يربط التهنئة بمنفعة اجتماعية واضحة، قائلاً إن "تبادل التهاني يحقق مصلحة ظاهرة" ويؤكد أن هذا السلوك "لا يضعف الإيمان، بل يعزز صورة الإسلام المتسامح، ويؤكد كرامة الإنسان، ويخدم السلم الاجتماعي".
هذا المنهج يجد ترجمته العملية في أدوار "رابطة العالم الإسلامي" ولا سيما عبر "وثيقة مكة المكرمة" التي تمثل أحد أهم المراجع الفكرية المعاصرة في تنظيم العلاقة مع الآخر.
"الوثيقة" لا تكتفي بالدعوة إلى التعايش، بل جاءت لتؤكد على أن الكرامة الإنسانية متساوية، وحماية الأقليات واجب شرعي، معتبرة التطرف انحرافا تجب مقاومته فكرياً وأخلاقياً، مع تركيز خاص على تحصين الشباب من أوهام "صدام الحضارات".
الشيخ محمد العيسى لم يكتفِ بكتابه المقالات وإصدار الوثائق، بل نشط عملياً في زيارات دائمة لمختلف القيادات الدينية والأكاديمية والسياسية المهمة، ومراكز الدراسات وبيوت الأفكار، في أوروبا والولايات المتحدة ودول عدة، وهذا الحضور لم يكن زيارات شكلانية عابرة، بل يراد منه التأكيد على أن الدين لا يُستدعى لتبرير الذاكرة الدموية أو تغذية الكراهية، بل لتكريس الوعي الأخلاقي ومنع تكرار المآسي!
"رابطة العالم الإسلامي" أيضاً دفعت باتجاه مشاريع مشتركة مع جهات عدة، ركزت على بناء برامج تعليمية لمواجهة خطاب الكراهية، وشراكات إغاثية في دول مختلفة، ومساحات تواصل شبابي تُبنى على العمل لا الجدل.
من المفيد في هذه الأوقات التي يمر فيها العالم بتبدلات وأزمات حادة استعادة ما دوّنه الدكتور العيسى، حين كتب "يمكن إساءة استخدام الإيمان لتبرير الإقصاء والعداء، كما يمكن استعادته ليكون مصدراً للرحمة وضبط النفس والفهم المتبادل"، ولذا فترسيخ خطاب ديني إنساني متوازن يتطلب أن يكون الفهم منطلقاً من رحمانية الدين، واستعادة قيمه النبيلة التي عمل المتطرفون على محاولة طمسها!

