: آخر تحديث

قسوة الزوج المستبد!

2
2
1

ثمّة حقيقة لا بد من مواجهتها بجرأة، حقيقة يعرفها جيداً من اقترب من حياة الزوجية، بينما لا يزال كثير من الأصدقاء الذين يعيشون بعيداً عن هذا القفص يظنون أن الأمر أيسر مما يبدو. إنّها حقيقة مُرّة، تُعاني منها نساء كثيرات في مجتمعاتنا العربية، حيث تتحول الحياة الزوجية من دفءٍ وأمان إلى ساحة ظلمٍ وقهرٍ واستبداد. نساء يعشن تحت وطأة القسوة، يتحملن بصبر وأناة مراراتٍ ثقيلة، ويواجهن ليالي سوداء، يُطفئ نورها استبداد الزوج، في صمتٍ يجبرهن عليه خوف الطرد والتشرد.

المرأة، في هذه التجربة القاسية، تجد نفسها بين خيارين أحلاهما مُرّ: أن تظلّ صامتة في بيتٍ يأويها ويضم أبناءها، لكنها تُهان فيه وتُذلّ كل يوم، أو أن تواجه غضب الزوج، فتنكشف للشارع عارية من السند والحماية. ولعلّ هذا ما يجعل أغلب النساء يقفن مكتوفات الأيدي، قاصرات الطرف، مسلوبات الإرادة، في مواجهة ظلم الزوج الجائر!.

المشكلة الحقيقية تتجلى حين تحاول المرأة أن تبوح بما في داخلها أو أن تطرح رأياً مختلفاً، فسرعان ما تُقابل بالتوبيخ والكلام البذيء من رجلٍ لا يعرفُ من الرجولة إلا صراخها، ولا من الحياة إلا كآبتها. الزوج المستبد يرى نفسه سيداً مطلقاً، آمراً ناهياً، وعلى المرأة أن تخضع وتنفّذ تحت التهديد الدائم بالخروج من البيت، البيت الذي ضحّت فيه بسنوات عمرها، وأنجبت فيه أبناءً رأت فيهم امتدادها وسندها. لكن هذا كله لا يشفع لها عند لحظة غضبٍ أعمى أو انفعالٍ عابر.

والأدهى من ذلك أن الزوج المتشدّد لا يبررّ تصرفاته، ولا يتيح فرصة للتفاهم، حتى لو كان خطأها غير مقصود. وهكذا يصبح صمت المرأة ملاذها الوحيد، وحين تختار الكلام تجد نفسها مهددة بالتشريد. لذا، تسكت معظم النساء، وهنّ يدركن أن السكوت أهون الشرّين.

لكن، أي مفرّ لهذا الصمت؟ حين تطرد المرأة من بيتها، تجد نفسها في مأزق أشدّ قسوة. إذ تلجأ في العادة إلى بيت أخٍ، تظنه ملاذاً، فإذا به نسخة أخرى من القسوة والتعالي. أخٌ متغطرس، يرى نفسه وصياً عليها، لا يعرف الرحمة، ويزيد من مأساتها بتوبيخٍ جديد وقيودٍ أخرى. بدلاً من أن يكون الأخ سنداً، يصبح سجّاناً آخر، يحتاج هو نفسه إلى تقويمٍ ودروس في علم النفس والاجتماع. وفي النهاية، لا تجد المرأة بداً من العودة إلى بيت الزوج، طالبة رضاه، خاضعة لفوقيته، مستجدية بقايا حنانه المفقود.

هذه القضية، على الرغم من أنها تمس حياة آلاف النساء، بقيت طويلاً حبيسة الأدراج والغرف المغلقة. مجتمعاتنا، التي ترفع شعار الشرف والكرامة، تتواطأ بالصمت على هذا الاستبداد، وترى في صمت المرأة فضيلةً، وفي صراخها عاراً. النساء يُواجهن مصيراً معقداً، حيث تتقاطع السلطة الذكورية مع ثقافة اجتماعية تُشرعن القسوة وتبرر الإذلال باسم الطاعة أو الدين أو التقاليد.

إنها معادلة جائرة، تجعل الزوج السيد المطلق، وتحوّل الزوجة إلى ظلّ، لا كيان له إلا بوجوده. ويظلّ هذا الظلم متستراً، لأن كثيراً من النساء يخشين الاعتراف أو البوح، خشية الوصمة الاجتماعية أو فقدان الأبناء أو الوقوع في العزلة.

من الناحية النفسية، تعيش المرأة في مثل هذا الوضع حالة من العجز المكتسب؛ فهي تتعلم تدريجياً أن صوتها لا جدوى منه، وأن محاولات المقاومة تنتهي إلى ألمٍ أكبر. وهكذا يتحول الصمت إلى استراتيجية بقاء، لكنه في الوقت ذاته يُحطم روحها الداخلية ويُفقدها ثقتها بنفسها.

أما اجتماعياً، فإن استمرار هذه الظاهرة يكرّس صورة مشوهة للزواج بوصفه عقد إذعان، ويُسهم في توريث القهر للأجيال القادمة. فالطفل الذي يكبر في بيتٍ يُهيمن عليه أب مستبد وأم صامتة، يتعلم أن القسوة هي اللغة الطبيعية للعلاقة الزوجية، وأن الطاعة العمياء هي قدر المرأة. وهكذا يعيد المجتمع إنتاج الاستبداد في دوّامة لا تنتهي.

حتى البيت، ذلك الفضاء الذي يُفترض أن يكون ملاذاً للراحة والطمأنينة، يتحول في ظل استبداد الزوج إلى سجنٍ صامت. الجدران التي شُيّدت لتحتضن العائلة تصبح شهوداً على الصراخ والدموع. الغرف التي كان يفترض أن تعجّ بالضحكات، تغدو مسرحاً للمشاحنات والإهانات. العمارة نفسها تفقد معناها الأصلي، لتتحول من فضاء للحبّ إلى جدران صماء تحفظ سرّ القسوة.

ليست هذه الظاهرة وليدة اللحظة، بل لها جذور في تاريخ طويل من الثقافة الذكورية التي منحت الرجل سلطة مطلقة، ورأت في المرأة تابعاً لا شريكاً. في كثير من المجتمعات التقليدية، كان الزواج يعني انتقال المرأة من وصاية الأب إلى وصاية الزوج، ومع مرور الوقت، استمرت هذه العقلية في التغلغل حتى داخل البيوت الحديثة. ورغم التطور التعليمي والتكنولوجي، بقيت العقلية ذاتها تُعيد إنتاج الاستبداد بأشكال مختلفة.

المطلوب اليوم ليس مجرد نصائح عاطفية، بل وعي اجتماعي شامل يعيد النظر في طبيعة العلاقة الزوجية. فالزواج ليس قيداً، بل شراكة. والمرأة ليست تابعاً، بل كيان مستقل له حق الاحترام والكرامة. إعادة صياغة هذه العلاقة تتطلب إصلاحاً في الوعي الجمعي، وتربية تنشئ الرجال على قيم المودة والرحمة، لا على ثقافة السيطرة والهيمنة.

كما أن القانون له دور أساسي في حماية المرأة من عنف الشريك. فلا يكفي أن تُوصي الأديان بالرحمة، إذا لم تُترجم هذه التوصيات إلى تشريعات عملية تُجرّم الإيذاء النفسي والجسدي.

إنّ قسوة الزوج المستبد ليست قضية خاصة، بل هي مرآة لخلل اجتماعي عميق. ما لم نكسر جدار الصمت، ونفتح الغرف المغلقة على نور النقاش الصريح، سيبقى الاستبداد يتغذى على خوف النساء وصمت المجتمع.

الحياة الزوجية لا تقوم على الخوف، بل على الحبّ. لا تُبنى على الإذلال، بل على الاحترام. وعلى الأزواج أن يعودوا إلى رشدهم، فيدركوا أن المرأة ليست خصماً، بل رفيقة درب، وأن القوة الحقيقية ليست في رفع الصوت أو اليد، بل في القدرة على الاحتواء والرفق.

فحين تُعامل المرأة بحنان واهتمام، لا بقسوة وإذلال، يتحول البيت من سجنٍ صامت إلى فضاء حيّ، ومن جدران ثقيلة إلى حضنٍ يليق بإنسانية الجميع.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.