في الوقت الذي يُعلن فيه الجيش الإسرائيلي عن دخول المرحلة التالية من حربه على غزة، بتركيز عملياته على قلب المدينة، تطفو على السطح معضلة وجودية: هل يمكن لحماس وقف هذا الزحف الدموي عبر توقيع اتفاق إنساني؟ أم أن إصرارها على شروطها، بالرغم من الكارثة الإنسانية، يجعلها شريكًا غير مباشر في استمرار المأساة؟ المشهد اليوم يشبه لعبة شطرنج دموية، حيث يُستخدم المدنيون كبيادق في صراع إرادات. فبينما يصر رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير على أن "المعركة الحالية حلقة في خطة طويلة الأمد للقضاء على حماس"، ترد الحركة باتهام إسرائيل بـ"الإبادة الوحشية". لكن الحقيقة الأكثر قسوة هي أن كلا الطرفين يخوضان حربًا وجودية على جثث الغزيين.
المفارقة الصادمة تكمن في أن حماس تملك مفتاح إيقاف هذه المأساة عبر توقيع اتفاق إنساني، لكنها ترفض التنازل عن شروطها السياسية. وفي المقابل، تلجأ إسرائيل إلى سياسة الأرض المحروقة، متذرعة بـ"تحرير الرهائن" بينما تدفع بغزة إلى حافة الهاوية. النتيجة؟ شعب يُباد ببطء، بينما القادة يتبادلون الاتهامات من خلف شاشات التلفزة.
المشهد العسكري اليوم يُشبه مسرحية مأساوية مكتوبة سلفاً. إسرائيل تعلن عن "نجاحات" في عملية "عربات جدعون"، مدعية أنها أفقدت حماس قدراتها العسكرية. لكن الواقع يقول إن المقاومة ما زالت قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي، بينما الجيش الاحتلالي يخوض حرب استنزاف في أزقة غزة الضيقة. الأكثر إثارة للاشمئزاز هو الحديث عن "إدخال خيام" للمشردين، وكأن الأمر يتعلق بكارثة طبيعية وليس بحرب إبادة ممنهجة.
على طاولة المفاوضات، تتحول الدماء إلى عملة مساومة. حماس تعلن قبولها مقترحات الوساطة "بدون تحفظات"، لكنها ترفض التنازل عن ضمانات سياسية تمنع إسرائيل من العودة للقصف لاحقاً. وفي الجانب الآخر، يصر نتنياهو على شروط مستحيلة تشمل "القضاء الكامل على حماس" و"نزع سلاح غزة"، وهو ما يعلم الجميع أنه غير واقعي. المفارقة أن كلا الطرفين يدركان أن الوقت عامل حاسم، لكنهما يقرآنه بشكل معاكس: إسرائيل تسعى لتحقيق "إنجاز سريع" قبل أن تتفاقم الضغوط الدولية، بينما تعوّل حماس على تصاعد الغضب العالمي لفرض تسوية سياسية.
المأساة الإنسانية في غزة تجاوزت كل حدود الخيال. أطفال يموتون جوعاً، مستشفيات تتحول إلى مقابر جماعية، وعائلات تنام تحت الأشجار، الأرقام الرسمية تتحدث عن المئات من ضحايا المجاعة، والغريب في الأمر أن العالم يشاهد هذه الكارثة وكأنها فيلم وثائقي، بينما تُسقط الطائرات "مساعدات جوية" سخيفة لا تكفي لإطعام عائلة واحدة ليوم واحد.
في الشارع الإسرائيلي، تتصاعد الاحتجاجات المطالبة بـ"صفقة الرهائن"، لكنها تظل احتجاجات أنانية تنظر للمأساة من زاوية ضيقة. المتظاهرون يهتفون من أجل "أبنائهم المخطوفين" بينما يتجاهلون آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية. حتى داخل الحكومة الإسرائيلية، ينقسم الساسة بين متطرفين يعتبرون أي حديث عن وقف الحرب "خيانة"، ومعتدلين يدركون أن الاستمرار في القتل لن يحقق إلا مزيداً من الكراهية.
حماس من جانبها تتحمل جزءاً لا يستهان به من المسؤولية. فبينما تدعي الدفاع عن الشعب الفلسطيني، ترفض تقديم تنازلات قد تنقذ ما تبقى من غزة. قيادة الحركة تعيش في عالم افتراضي من الخطابات النارية والشعارات الثورية، بينما الشعب يدفع الثمن من لحمه ودمه. السؤال الذي يفرض نفسه: أين المسؤولية الأخلاقية لقادة يختفون في الأنفاق بينما شعبهم يُباد فوق الأرض؟
الحلول السياسية تبدو بعيدة المنال في هذه الأجواء المشحونة. المجتمع الدولي عاجز عن اتخاذ موقف حاسم، والأمم المتحدة تكتفي بإصدار بيانات الاستنكار. العقوبات على إسرائيل تظل حبراً على ورق، بينما الضغوط على حماس غير كافية لإجبارها على المرونة. في النهاية، يبقى المدنيون هم الوقود الذي يغذي هذه الحرب العبثية.
وفي النهاية، لن يسأل التاريخ عن عدد القتلى في هذه الحرب، بل سيسأل: كيف سمح العالم بتحول غزة إلى ساحة تجارب للقوة والعنف؟ القادة العسكريون والسياسيون في كلا الطرفين سيجدون ملاذًا آمنًا تحت الأرض أو خلف الجدران الفولاذية، لكن الأطفال الذين يموتون جوعًا تحت الأنقاض لن يعودوا. الحل الوحيد الآن هو وقف هذه الآلة الدموية، ليس لأن أحدًا قد انتصر، بل لأن الجميع قد خسر. والسؤال الأصعب: هل سيدرك الطرفان هذه الحقيقة قبل أن تختفي غزة من الخريطة؟