: آخر تحديث
قارعو طبول الإبادة وأبواق الفتن والقتل والدمار

مشروع تفكيك المكونات على المقاس السلطوي

2
2
2

ينفتح المشهد السوري مجدداً على مقومات وأدوات أو أعواد ثقاب أزمة قديمة تُرتدى ثوباً من قش ونفط جديدين، أو حتى أسطوانة ديناميت وصاعق وفتيل، حيث تتجمع أطراف من بينها من طالما انحنت لعصا النظام البائد من قبل، لتعيد الاصطفاف حول نظام بديل أو حتى حول مجرد ظل النظام السابق، إن استدعت الضرورة طالما المستهدفون هم: الكرد، وقد ضمّت هذه الأطراف إلى صفوفها وجوهاً من نخب أكثرها عاش على موائد الولاء، عبر تاريخها الشخصي. إذ إنه في هذه المرة، لا يُرفع الخطاب من أجل إصلاح أو حماية بلد، بل من أجل شيطنة صورة "الكردي" عبر ضرب مرتكزاته السياسية والثقافية والعسكرية، وتشويه أحزابه ومثقفيه ومقاتليه، وكل من يصرّ على خصوصيته. حيث تتكرر الاتهامات المعلبة بحق قوات سوريا الديمقراطية، بدءاً من الزج بها في خانة الإجرام، إلى فرية وصمها بالكفر، فيما يمعن هؤلاء في تجاهل الحقيقة التي رآها العالم بأسره، وهي أن هذه القوات واجهت "داعش" في أشد معارك القرن دموية، وقدمت من دمها ما يكفي ليعرف الخصم والصديق أنها لم تكن يوماً عابرة في حرب المصير.

فما أن تُقلب الحقائق، حتى يصبح بعض جموع البطانة من ضحايا الإرهاب الداعشي سلعةً في بازار التحريض، فيُعاد تدويرهم باعتبارهم ضحايا "قسد"، متجاهلين أنَّ موازين الفظائع لا تستقيم حين يُقارن سجل الفصائل التي استباحت عفرين وسري كانيي وتل أبيض وغيرها، بما ارتكبته هذه القوات، وهو أمر ــ مع الأسف ــ متوقع واضطراري في عالم الحروب. أجل، كل نقطة دم تهدر، سورية أو غير سورية، هي مأساة، غير أن المقارنة تفضح أن انتهاكات "قسد" أقل بكثير مما فعلت فصائل حملت وتحمل ــ زوراً ــ رايات التحرير وهي تمارس القتل والسلب على نطاق واسع.

وسائل "التفاصل":
منابر تحريض وغرف عمليات

تأسيساً على ذلك، فإنَّ من يتابع "منابر" بثاثي السموم أو من يطالع الصفحات الفيسبوكية التابعة لخط الفتن والتحريض ــ وقد صارت بعشرات الآلاف ــ يدرك أن أكثرها تحول إلى غرف عمليات إلى جانب أنها منصات لإدارة حرب نفسية ومعنوية، تبث الخطط العسكرية، وتلمع صورة الفزاعات والفزعات المتنوعة، في إطار تكريس التقسيم، وهي تستمد شحنها الكهربائي من نشرات أخبار الخارجية التركية، وتمنح ــ وفق ما هو مطلوب منها ــ نظام أنقرة أوراق الضغط في توقيت محسوب، كي يندمج المحتوى اليومي لهذه الصفحات مع التحريض على الأرض، حيث يتم نشر ما يوحي بأنه من جملة أهداف الطائرات المسيرة، إلى جانب زرع ألغام الأخبار الكاذبة، والتسويق لسيناريوهات الحرب كما لو كانت عرضاً احتفالياً، على إيقاع هوسات جاهلية، تدار من قبل من يلعبون أدوار: "الفتنجي" أو البثاث أو أمير الحرب والبلطجة والسطو، كأدلاء سياحيين لاحتلال بيوت الكرد وسبي نسائهم. ومن عجب أن يتحول محرضو النظام على كل مختلف، لاسيما الكردي، إلى كتبة في الفضاء الأزرق ومحللين سياسيين طالما أنهم يمتلكون رصيداً من الدجل والنفاق واللؤم والخبث والكذب والتزوير والوقاحة، بل إلى خبراء عسكريين، يمارسون الحرب المعنوية التي لا تنم إلا عن فزعهم وجبنهم الداخلي، إلى جانب عشرات المصطلحات كما قرأتها قبل يومين في "مُقيل" أحدهم، ومنها: التعبئة المعنوية، الهجوم البري، القصف التمهيدي المدفعي أو الجوي، مسرح العمليات، الإمداد اللوجستي، الكمائن المحكمة، حرب الإطباق، الهجوم الموجي...!

إنما الحرب التي يسوق إليها هؤلاء الأنفار المستنفرون في نفيرهم ونفورهم من الكردي ليست نزهة، ولا مغامرة يمكن إنهاؤها بمجرد إعلان النصر شارات على الشاشة الزرقاء أو الصفراء. هذه حرب تهدف إلى ما هو أبعد من كسر "قسد" أو تفكيك مناطق الإدارة، إذ إنها تسعى إلى استنزاف الكرد ككيان ووجود، من أجل تمهيد الطريق لمرحلة اجتثاث أوسع، تطال حتى المكون السني الذي لا يتوافق مع قالب النظام الجاثم على صدور السوريين، وبتواطؤ من بعض نهازيه من العوام البسطاء أو أصحاب الطموح بغرض النفوذ وحتى بعض النخب المنخولة. ومن هنا فإن السوريين الأكثر وعياً، وخاصة من أهلنا السنة الحكماء الوطنيين الذين خبروا دور السلطة المستبدة تاريخياً ــ أياً تكن هويتها ــ لا سيما على ضوء ما يجري في تصفية خصومها، فهم يدركون أن هذه الجولة، مهما جرى تغليفها بالشعارات، ليست سوى امتداد لحروب وضع النظام البائد لبناتها وأسسها، ضد المكونات، حتى وإن كانت ضد بطانة بطانته، فيما لو خرجت عما هو مرسوم لها، كي يبقى هو ويسود ويبطش ويقتل ويسطو، ومن بين هؤلاء من ينتمون إلى السنة والعلويين والدروز وسواهم، حين جرى الزج بهم في معارك لحماية عرش السلطة لا مصير المواطن ووطنه.

إذ يظهر البعد الأخطر في انخراط أطراف عشائرية ــ ولا تعميم البتة لأن للعشيرة دورها الإنساني والأخلاقي الكبيرين في مجتمعاتنا ــ ضمن هذا السيناريو، وهو ما يمنح الحرب واجهة اجتماعية يمكن ترويجها كصراع داخلي، وهو المخطط الأكثر قذارة في تاريخ البلد، في حين أن بعض هؤلاء الوافدين إلى خطوط المواجهة هم مرتزقة ومن بقايا البطانات الداعشية، أو ممن حافظوا على صلات مع فصائل تحمل جينات الإرهاب في ممارساتها وخطابها. هكذا، يُدفع جزء من البنية العشائرية ليكون رأس الحربة في حرب إبادة، تحت لافتةٍ توحي بأنها دفاع عن "المنطقة" أو "الهوية"، بينما تدار الخيوط من غرف القرار التي لا ترى في الدم المسفوح سوى وسيلة لتغيير الخرائط التي يعد هؤلاء المنتخون أنفسهم من عداد حطبها أو وقودها!؟

من هنا نرى أن مقاربة هذه الحرب من زاوية عسكرية فقط اختزال خطير، فهي ليست مجرد اشتباك بين قوات على جبهات محددة، بل مشروع متكامل لتدمير بيئة سياسية وثقافية بأكملها، وفتح المجال أمام إعادة توزيع الولاءات بما يتوافق مع مصالح القوى الراعية. وإذا كان نافخو الأبواق أو الفتن، البواقون، ممن يجيدون صناعة العدو، يعتقدون أن الأمر سينتهي بإذعان سريع من الطرف الكردي، فإنهم يغفلون أن التاريخ لم يسجل انقراض شعب بفعل حرب واحدة، وأن نتائج مثل هذه المواجهة مفتوحة على احتمالات تتجاوز تصورات من حشدوا لها، وليست في صالح السوريين عامة، بعد أن أنهكت الحرب جميعهم.

أجل، إن التلويح بقرع الطبول قد يثير حماسة من يبحث عن ثأر شخصي أو مكسب آني، لكنه لا يلغي أن الحرب، بمآلاتها الكارثية، ستعيد إنتاج أزمات أعمق وأشد استعصاءً. وإن كان التحريض الجاري يربط المعركة بمفردات "التطهير" و"التحرير"، فإنه في جوهره ينسجم مع خطط النظام الجديد في إضعاف المكونات المتبقية، وتحويلها إلى جزر معزولة يسهل التحكم بها. وهكذا، يتكشف أن لا فارق البتة بين الحرب التي تُحضَّر الآن ضد الكرد، وحروب النظام السابقة على السوريين، لطالما أن هذه الحرب توظف أدوات النظام نفسها مضافاً إليها خدمات فزعات محلية وحتى إقليمية، على نحو أوسع وأشد تداخلاً، على الصعيد المجتمعي.

انطلاقاً من هذا نجد أن من يدفعون نحو هذه المواجهة، وهم يدركون حجم الدمار الذي ستخلّفه، لا يعولون على نصر حاسم بقدر ما يراهنون ــ في نزهتهم الموهومة ــ على محاولة إنهاك الطرف الكردي وإفقاده القدرة على فرض أي صيغة لحضوره المستقل. غير أن هذا الرهان محفوف بالمخاطر، إذ يمكن أن يقود إلى إعادة رسم تحالفات محلية وإقليمية لم تكن في حسبانهم، ويطلق ديناميات مقاومة أكثر تعقيداً من تلك التي واجهوها في الحروب السابقة.

وهكذا، فإنَّ المشهد الراهن ليس سوى بروفة موسعة على حرب طويلة النفس أو الأمد، تدار فيها المعارك على الأرض وفي الفضاء الإعلامي في آن واحد، حيث تلعب الشائعات والبيانات والأخبار المفبركة والمقاطع الممنتجة دور القذائف الموجهة، ويصبح تضخيم أو اختلاق الحوادث جزءاً من الاستراتيجية الكلية. وإذ يتوهم قارعو الطبول أنهم يحاصرون الكرد في زاوية ضيقة، فإنهم يحاصرون ذواتهم، من حيث لا يدرون، ويفتحون أبواباً لمواجهات قد تتجاوز في شراستها حدود ما خططوا له، تاركين خلفهم بلداً آخر من الحطام والمرارات المؤجلة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.