تتصاعد أهمية ملف انسحاب إسرائيل من النقاط الخمس في لبنان ليصبح قضية محورية تتداولها الأوساط السياسية والشعبية على حد سواء، إذ يرى الكثيرون أن هذا الانسحاب يشكل خطوة أساسية تساعد الحكومة اللبنانية في الضغط على حزب الله من أجل جمع سلاحه، وهو مطلب طال انتظاره لتعزيز سيادة الدولة اللبنانية. غير أن الواقع على الأرض يحمل تعقيدات كبيرة، فعدم انسحاب إسرائيل من هذه النقاط لا يُنظر إليه فقط كاحتلال مستمر، بل كأداة استراتيجية تستخدمها تل أبيب داخلياً وخارجياً. داخلياً، يشكل هذا الوجود العسكري الإسرائيلي في شمال البلاد ورقة تهدئة لسكان الشمال الذين يخشون من عودة الوصفه إلى ما كان عليه قبل الحرب الأخيرة. أما خارجياً، فإن إسرائيل ترسل رسالة واضحة إلى لبنان مفادها أن الانسحاب لن يتم ما لم يتم جمع سلاح حزب الله ومنعه من استخدام الجنوب اللبناني كمنطلق لعمليات عسكرية ضد إسرائيل، وهو موقف يعكس استراتيجية ربط الانسحاب بتحقيق شروط أمنية محددة.
في هذا السياق، يبدو أن هناك اتفاقاً غير مكتوب بين إسرائيل ولبنان يقضي ببقاء القوات الإسرائيلية في هذه النقاط حتى يتم تسليم حزب الله لسلاحه، حيث تعتقد الحكومة اللبنانية أن الانسحاب المبكر لإسرائيل قد يُستغل سياسياً من قبل الحزب لإعلان نصر شعبي، مدعياً أن سلاح المقاومة هو السبب في الانسحاب، وهو ما قد يعزز نفوذ الحزب على حساب الدولة. هذا الواقع المعقد يتطلب دراسة متأنية، إذ قد يعتقد البعض أن على إسرائيل الانسحاب فوراً، لكن متابعة تصرفات حزب الله ومحاولاته المستمرة للمماطلة في تسليم السلاح تكشف أن بقاء إسرائيل في تلك النقاط قد يكون في مصلحة لبنان في هذه المرحلة، لأنه يشكل رادعاً يمنع الحزب من استغلال الجنوب كقاعدة عسكرية.
في الوقت ذاته، يبدو أن هناك تنسيقاً بين لبنان والولايات المتحدة الأمريكية لدعم جهود الحكومة اللبنانية في جمع سلاح الجنوب، تمهيداً لانسحاب تدريجي لإسرائيل من تلك النقاط، بحيث يتم تسليمها للجيش اللبناني الذي سيقوم بالتمركز هناك ومنع حزب الله من العودة إلى أي تموضع عسكري فيها، مما يعزز سيادة الدولة ويقلص نفوذ الحزب. هذا التنسيق يعكس وعي الأطراف الدولية بأهمية استقرار لبنان وأمن إسرائيل، ويؤكد أن الملف لا يمكن حله إلا عبر تعاون متعدد الأطراف.
أما على صعيد إعادة الإعمار في الجنوب اللبناني، فالأمر مرتبط بموافقة إسرائيلية لضمان عدم استخدام حزب الله للمناطق السكنية كمراكز عسكرية، كما حدث خلال الحرب الأخيرة، وهو ما تشاركه الحكومة اللبنانية نفسها في رؤيتها، معتبرة أن إعادة الإعمار يجب أن ترافقها ضمانات أمنية تمنع تحويل الجنوب إلى منطقة عسكرية للحزب. هذا التفاهم غير المعلن بين الأطراف يعكس واقعاً جديداً في العلاقات اللبنانية-الإسرائيلية، حيث كانت هناك سابقاً قواعد اشتباك ضمنية غير مكتوبة حافظت على نوع من الاستقرار النسبي قبل الحرب الأخيرة، أما الآن فهناك قواعد جديدة للانسحاب والحماية، غير معلنة، تعكس تفاهمات دقيقة بين الطرفين.
لسان حال الحكومة اللبنانية يقول لإسرائيل: "لا تستعجلوا المغادرة بل انسحبوا بحذر وبتدرج، حتى لا نعود إلى واقع عام 2000 عندما انسحبت إسرائيل أحادياً ورفع حزب الله رايات النصر، مما رسخ ما سمي بسلاح المقاومة وفرضه على كل اللبنانيين". هذا الموقف يوضح أن الانسحاب الأحادي قد يؤدي إلى تعزيز نفوذ حزب الله على حساب الدولة، وهو أمر لا ترغب الحكومة اللبنانية في تكراره.
بالتالي، فإن ملف انسحاب إسرائيل من النقاط الخمس في لبنان ليس مجرد مسألة حدود أو احتلال عسكري، بل هو ملف معقد يتداخل فيه الأمن والسياسة والمصالح الإقليمية والدولية. بقاء إسرائيل في هذه النقاط أو انسحابها مرتبط بشروط دقيقة ومتبادلة، ويعكس واقعاً يحتاج إلى توازن دقيق بين مصالح الأطراف اللبنانية والإسرائيلية والدولية، حيث لا يمكن النظر إلى الأمر من زاوية واحدة أو اتخاذ قرار متسرع دون دراسة معمقة للمعطيات الأمنية والسياسية على الأرض.