: آخر تحديث

تغيير وجهة المجتمعات

1
1
1

اللافت للنظر في أمر تحويل وجهة المجتمعات واستبدال مسارها العام، خاصةً تلك القائمة على ركائز الولاءات الدينية أو المذهبية أو الإثنية أو العشائرية، هو أن إمكانية التأثير عليها سلمياً وبوسائل الإقناع من أجل إحلال تصورات جديدة عوضاً عن مفاهيمها البالية، وإمكانية تغيير توجهاتها الكلية كي تخطو نحو المستقبل بدلاً من المكوث في الماضي، ضئيلة للغاية، حيث إن المأمول لا يحدث عادةً عبر النقاشات المكثفة أو الحوارات الدورية أو المناظرات العلنية أو الدورات المتتالية أو الاستفتاءات الجماهيرية حول قضية ما، إنما الأحداث الخطيرة سواءً أكانت مفتعلة أم طبيعية وحدها قادرة على قلب الموازين، والتي لديها الاستطاعة على تغيير الاتجاهات خلال أيام معدودة، فالحدث العظيم كالسيل العظيم قادر على أن يُحوِّل مجرى الحشود البشرية في وقتٍ قصير جداً، وهو ما لا تقدر على مضاهاته في الفعل على أرض الواقع مئات الجلسات النقاشية.

وأقرب مثال على ذلك، ما جرى في كل من الساحل السوري ومحافظة السويداء، إذ إنه كان من الصعب جداً بل ربما كان من شبه المستحيل أن يتم إقناع جمهور الثورة وعموم النشطاء إضافةً إلى النخبة السياسية والثقافية والاقتصادية في المناطق المشار إليها بأهمية النظام السياسي اللامركزي أو الفدرالي في البلد، هذا بالرغم من أنهم عانوا جميعاً من سطوة السلطة المركزية في السابق، ولو عُقدت من أجل تغيير وجهة نظر الناس حيال هذه المسألة مئات الندوات الجماهيرية لما استطاع فريق كامل من المفكرين والكتاب والفنانين إحداث التأثير المطلوب بهذا الخصوص، بينما المجازر التي حصلت في الساحل السوري وكذلك الأمر الانتهاكات والجرائم المماثلة التي حصلت في محافظة السويداء استطاعت أن تغيّر الرأي العام في فترة قياسية رأساً على عقب.

بل وصار الكثير من المنتمين إلى نخبة المجتمع في المنطقتين المذكورتين أكثر حماسةً من الناس العاديين للتخلص من ركائز وعقلية النظام المركزي الذي يُمهد للدكتاتورية والاستبداد، ما يعني أن كل المحادثات والمنشورات والمقالات والدراسات والملتقيات لم يكن لها دور ونفوذ وتأثير على ذهنية المجتمع، بينما الخسائر في الأرواح والممتلكات كانت قادرة على تبديل وجهة نظر معظم الناس في المنطقتين بسرعة خيالية، وذلك لأنهم عايشوا الخطر المحدّق بهم والأذى طال مئات البيوت من أهاليهم ومعارفهم، وصار أي شخص في المناطق المذكورة يشعر بالخوف على حياته وحياة المقربين منه، وهو ما أحدث الفارق الأعظم في قلب الرأي العام، حيث تركت الأحداث الدموية أثراً قوياً في النفوس والعقول.

علماً أن أعمالاً إجرامية أخرى حدثت في مناطق مثل "عفرين" و"رأس العين" و"تل أبيض"، وعلى الأغلب من قِبل نفس الفئات العسكرية، ولكن الموبقات والانتهاكات التي ارتُكبت في المناطق المذكورة خلال السنوات الفائتة لم تترك أثرها الكبير على الكثير من المواطنين في الساحل والجنوب، ليس لضعف التعاطف الإنساني ولا لقلة الحساسية لدى الناس هناك، إنما بسبب الإعلام المضلل الذي عمل على تغييب وتشويه الحقائق، كما أن الوقائع كانت بعيدة عنهم، والنبال كانت نائية ولا تقع بالقرب من جسد المراقب، وبديهي أن أثر الانتهاك البعيد عن النظر في الوجدان لا يرقى أبداً لمستوى الجرم الواقع أمام البصر، إذ إن تلك المشاهد المروِّعة خلال أزيد من خمس سنوات لم تنجح في دفعهم نحو تغيير مواقفهم السياسية بناءً على المجريات الميدانية هناك، بينما عندما وصل البل للذقن ورأوا بأم أعينهم الويلات وتجرعوا مرارتها وعاشوا فصولها، وقتها حدث التغيير الكلي لدى غالبية الناس تجاه السلطة الحالية وتجاه مستقبل ونمط الحكم في البلاد بوجه عام.

على أي حال، فإذا كانت أنظمة الحكم في بلادنا المبتلاة بحكّامٍ يعشقون العسف تدرك بأن إمكانية إحداث التغيير المنشود في بنية وثقافة شعوبها على المدى القريب صعبة للغاية، لذا تلجأ السلطات أحياناً إلى آليات بث الرعب في الجماهير وتهديد حياتها من أجل قلب الرأي العام خلال أيام معدودة، ولنقل إنه بناءً على تلك الآلية تعمَّد النظام السوري المخلوع تفجير فرع الأمن العسكري في حلب بداية الثورة، وكذلك الأمر قيامه بعمليات مماثلة في كفر سوسة بدمشق وفي حي الشيخ ضاهر وسط مدينة اللاذقية، وذلك لكي تنجح السلطة في بث الخوف في أوداج الناس حيال البديل المفترض، والمصير المرعب الذي ينتظرهم إذا ما سقط ورحل. فالسؤال إذن: ما الحكمة مما جرى في الساحل السوري ومحافظة السويداء في الأشهر الأولى من حكم السلطة الجديدة؟ فهل السلطة الحالية مثل السلطة السابقة تدرك مستوى وعي العوام في البلد، لذا من أجل التغييرات الكبيرة المخطَّط لها من قِبل الدول الفاعلة كانت مجبرة على التضحية بعدد كبير من الناس من أجل إنجاح المشروع؟ أم أن السلطة لم تكن تتصور إطلاقاً بأن تُرتكب كل تلك المجازر في المنطقتين المذكورتين؟ وبالتالي المسلحون لم ينفذوا أوامر السلطة، إنما عبَّروا عن ذهنيتهم الإجرامية وتخطوا كل الحدود لمجرد أن تم السماح لهم بحرية التصرف مدة معيّنة، حيث كشفوا عن أناهم العدوانية وما تربوا عليه ونهلوا منه، وبالتالي تصرفوا فقط بناءً على ما يحملونه من الحقد والكراهية تجاه كل مختلف عنهم؟ وتأسيساً عليه فلنفترض جدلاً أن القيادة في العاصمة السورية بريئة من تنفيذ مشاريع ومآرب ومخططات الدول الإقليمية، وبريئة كذلك الأمر من إجرام قادة وعناصر فصائلها العسكرية الذين تارةً يُفلتون على الساحل السوري وتارةً أخرى على السويداء، فهذا يعني بأن لافتة "الحرية والكرامة" التي رفعها معظم السوريين بداية الثورة ستتمزق وتتلاشى في المناخ العاصف الذي يعيشه البلد، وهو ما قد يؤدي إلى تلاشي ثقة وأمل نسبة كبيرة من المؤمنين بالثورة أنفسهم بناءً على هذه الممارسات القميئة، كما تلاشى يوماً تعاطف الحكيم الفرنسي جوزيف جوبير مع الثورة الفرنسية بعد أن كشفت عن وجهها الدموي القبيح؛ وفق ما أشار إلى ذلك الكاتب الأميركي بول أوستر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.