في أجواء الحرب الحديثة، لم تعد السماء ملكاً للطائرات المقاتلة الضخمة وحدها، بل تسللت إليها آلات صغيرة الحجم، هائلة التأثير، تُعرف بالدرونز ، هذه الطائرات بدون طيار لم تعد مجرّد أدوات استطلاع أو منصات تصوير، بل باتت القلب النابض للحروب غير المتماثلة، بل وللحروب النظامية أيضاً!
لكن وسط هذا التحول برزت مدرستان عسكريتان متعارضتان في فلسفة استخدام هذه التكنولوجيا: المدرسة الغربية، التي تركز على الذكاء الاصطناعي والدقة الجراحية، والمدرسة الشرقية، التي تبني عقيدتها على السرب، والإغراق، والتكلفة المنخفضة. بينهما تدور واحدة من أخطر معارك القرن الواحد والعشرين، حيث لا يُقاس النصر بعدد الطلقات بل بعدد الإشارات المشفرة، وعدد رقائق السيليكون المصممة للإبادة الرقمية.
في العقيدة الغربية، وتحديداً الأمريكية، تُعتبر الدرونز امتداداً لسياسات الردع الاستراتيجي ، كل طائرة بدون طيار هي كمبيوتر طائر، مزود بأنظمة ملاحة دقيقة، وتوجيه ليزري، وقدرات استخبارية تسمح لها بتحقيق أهدافها دون الحاجة للعودة إلى القاعدة. أشهر تجسيد لهذا التوجه هو طائرة (MQ-9 Reaper) التي لا تراقب فقط، بل تقصف بدقة عالية وتستمر في الطيران لساعات طويلة فوق مسارح العمليات. تعتمد هذه المدرسة على الجودة، التفوق التكنولوجي، والقدرة على تحييد الأهداف قبل أن تُدرك أنها تحت الاستهداف. لكن هذا النهج باهظ الثمن، ويحتاج إلى شبكات أقمار صناعية، وتشفير عسكري معقد، وبيئة سيبرانية محمية من الهجمات المضادة.
على الضفة الأخرى، نشأت المدرسة الشرقية، وتحديداً الروسية والصينية، كرد فعل عملي لتقدم الغرب التكنولوجي. لا تسعى هذه المدرسة لمضاهاة الدرونز الغربية قطعةً بقطعة، بل تبتكر ما يمكن تسميته بـ (حرب القطيع) عشرات، بل مئات الطائرات الصغيرة، الرخيصة، تُطلق في أسراب تغمر الدفاعات الجوية وتُربك الرادارات، مستفيدة من الكثرة لتجاوز التفوق النوعي. هذه الطائرات ليست بالضرورة ذكية، لكنها مرنة، قابلة للتطوير المحلي، وسهلة التعويض. بل إن بعض النماذج تم تطويرها لتكون انتحارية، تُحلّق نحو الهدف لتفجّر نفسها، كما هو الحال في درونات (لانسيت) الروسية و (CH-901) الصينية.
الصراع بين هاتين المدرستين تجلّى بوضوح في ساحات القتال المعاصرة. في أوكرانيا، مثلاً، اصطدمت الفلسفة الغربية في استخدام الدرونز المتطورة مثل (Bayraktar TB2) رغم أنها تركية لكن تم استخدامها وفق العقيدة الغربية مع سيل من الدرونز الانتحارية والإلكترونية الروسية. وفي هذا المسرح الدموي، تبيّن أن الحرب ليست فقط بين الآلة والآلة، بل بين المفهوم والفكرة. الطائرات الغربية قد تُسقط بسهولة إن لم تتوفر لها حماية إلكترونية مناسبة، أما الأسراب الرخيصة فتستمر في الهجوم حتى بعد إسقاط نصفها، وتخلق ضغطاً لا تستطيع الأنظمة الغربية التكيف معه دوماً….!
المدرسة الغربية تراهن على الذكاء الاصطناعي لتحسين دقة الاستهداف، تقليل الأضرار الجانبية، وتحقيق تفوق تكتيكي على المدى الطويل. أما الشرقية، فترى أن كثرة النيران والانتحار الموجّه يمكن أن يحقق تأثيراً استراتيجياً بسرعة أكبر وبكلفة أقل. وهذا يعكس فلسفة أعمق في فهم الحرب نفسها: الغرب يرى الحرب كعملية جراحية دقيقة، بينما يراها الشرق كضربة مطرقة على رأس العدو، حتى لو كسرت الطاولة أثناء العملية.
لكن المدهش أن خطوط التماس بدأت تتداخل. فروسيا والصين تستثمران الآن بشكل متسارع في الذكاء الاصطناعي للدرونز، فيما بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها يدرسون تكتيكات (سرب النحل) والدرونز الانتحارية. هذا التداخل لا يعني نهاية الصراع بين المدرستين، بل يعني أن ساحة المعركة مقبلة على نوع جديد من الدمج القتالي، حيث يلتقي الذكاء مع الانتحار، وتُبرمج الفوضى لتصبح سلاحاً.
يضاف إلى ذلك البعد السيبراني، فكل درون متصل هو هدف قابل للاختراق، والسباق بين الجيوش لا يتوقف فقط على من يطلق الدرون، بل على من يستطيع تعطيله في الجو قبل أن يصل الهدف. هنا تبرز أهمية الحرب الإلكترونية، التي تبدو وكأنها الذراع الخفية التي تحدد مصير الطائرات بدون طيار قبل أن تنطلق من قواعدها. المدرسة الغربية متقدمة في هذا المجال، لكن المدرسة الشرقية تطور أدوات تشويش وتخريب إلكتروني بأسعار منخفضة، مما يهدد بتغيير قواعد اللعبة مجدداً.
ولا يمكن إغفال تأثير الدرونز على الحرب النفسية. مشهد سرب درونات منخفضة التحليق يزحف ليلاً فوق المواقع العسكرية يُحدث أثراً نفسياً مضاعفاً على الجنود. وهذا ما تدركه كلتا المدرستين جيداً، فتسعى إحداهما لبث الرعب عبر مشاهد دقيقة لاصطياد هدف فردي، وتسعى الأخرى لنشر الفوضى عبر أسراب مخيفة لا يمكن إيقافها.
في النهاية، الحرب ليست فقط بين آلات تطير، بل بين تصورات عقلية لعالم ما بعد المعارك التقليدية. المدرسة الغربية تؤمن أن الدرونز يجب أن تكون ذكية، دقيقة، وقاتلة دون صوت، بينما ترى المدرسة الشرقية أن الكمية، والسرعة، والتشويش يمكن أن تحقق النصر بأسلوب أشبه بالسيول المفاجئة.
المستقبل لا ينتمي إلى مدرسة دون أخرى، بل إلى من يملك المرونة في الدمج، وسرعة التكيف، وجرأة إعادة التفكير. فسماء المعارك القادمة لن تكون ملكاً لمن يملك أغلى طائرة، بل لمن يفهم أن الحرب لم تعد تدور على الأرض فقط، بل في الهواء، وفي الإشارات، وفي الخوارزميات التي تتسلل خلسة إلى قلب المعركة… وتضغط زر النهاية.