في التاريخ السياسي العربي الحديث تتكرر مأساة عميقة الجذور، مأساة قوامها خطاب شوفيني إرهابي يتزيّا بأثواب القومية حيناً وبشعارات الدين حيناً آخر وبلافتة التحرر أحياناً كثيرة، لكنه في جوهره ليس إلا سماً فكرياً يتسلل إلى أعماق المجتمعات فيفتك بها من الداخل. هذا الخطاب بدأ منذ اللحظة التي خرجت فيها المنطقة من عباءة الدولة العثمانية، فإذا به يستولد أشكالاً جديدة من القهر والوصاية والتمييز، ويُنتج سلطة محلية أشد وطأة على شعوبها من سلطة المستعمر الأجنبي.
لقد صار كل من يرفع لواء هذا الخطاب يظن نفسه قيّماً على الأمة والتاريخ، لا لشيء إلا لأنه يمتلك لساناً حاداً ومخزوناً من الكراهية يتغذى على معاناة البسطاء ويحوّلها إلى وقود لأوهام أبدية، حتى أصبحنا نرى أمة خرجت من سطوة الاستعمار الخارجي لتقع أسيرة لمستعمر داخلي من جنسها، يتحدث بلغتها ويجلدها باسم خلاصها الموعود.
لقد أتقن هؤلاء المتحدثون باسم الوحدة صناعة خطاب يقوم على تقسيم الشعوب إلى مؤمنين بفتنتهم وخارجين عنها، فإذا كان النظام بعثياً صار الانتماء للحزب شرطاً لامتلاك الحق في الحياة، ومن لم ينخرط في هذه المنظومة صار كائناً فائضاً عن الحاجة، وإن كان قومياً أو يسارياً أو متديناً أيديولوجياً فالقاعدة واحدة، إذ يصبح الخارج عن طاعة التنظيم او النظام ذليلاً لا وزن له. وهنا يكمن بيت الداء، فهذه الأيديولوجيات المنحرفة لم تكتفِ بتجويف السياسة وإفساد الحكم، بل أرغمت الإعلام والتعليم والثقافة على الانحناء أمامها، ففرضت قواميسها ومصطلحاتها وأعادت إنتاج العقول على هواها، حتى صار الناس يتنفسون أوهامها من دون وعي.
بلا شك، ان الشعوب العربية تُصدم وتُفجع نفسيا وفكريا، عندما تسمع وترى قيادات كاريكاتورية مثل يحيى السنوار وخليل الحية ومن هم على شاكلتهم تلوك لغة التحرير والكرامة فيما يتغذى مشروعهم على إذلال شعوبهم وبيع أوطانهم في سوق المزايدات الإقليمية. فهؤلاء المرتزقة والمنحرفون تراهم لا يرون في العرب شركاء في الحضارة أو المستقبل، بل وقوداً لحروبهم العبثية أو خصوماً ينبغي إخراسهم، وهنا تكمن المفارقة المرة، إذ لم تكن عداءاتهم موجّهة للخصم الأجنبي وحده بل صارت للعرب أنفسهم متى خالفوهم الرأي أو رفضوا الانضواء تحت أيديولوجيتهم.
وهل تحتاج هذه الأمثلة إلى مزيد من الشرح لتكشف حجم الوهم الذي تعيشه الشعوب؟ أليست كلها دليلاً صارخاً على أن الخطاب العربي الشوفيني لم يحقق إلا الخراب؟ من يتأمل هذه النماذج يدرك أن هذه الشعارات المتكررة لم تصنع وحدة ولا حفظت كرامة، بل قادت إلى تفكك المجتمعات وزيادة الشرخ بينها.
وهذا هو بيت المفارقة، فبينما يتشدق هؤلاء بالقيم الكبرى ويستحضرون التاريخ، يستخدمون هذه القيم نفسها لتبرير طغيانهم، فالأصل الواحد يصبح ذريعة لاحتلال الجار بدعوى "عودة الفرع إلى أصله"، والدين الواحد يتحول إلى سيف لإذلال المخالف وتكفيره وتبرير الفتك به.
وحين يُسأل قادة هذه المشاريع عن التناقض الصارخ بين الدعوة إلى الوحدة وبين سلوكهم على الأرض، لا يترددون في التذرع بمؤامرات الآخرين، وكأن الأمة لم تعرف في تاريخها عدواً سوى ذاتها. هذه الهياكل الفكرية المنحرفة لم تكتفِ بإقصاء الداخل، بل احتاجت إلى صناعة عدو دائم – دولة إسرائيل - تستند عليه لبقاء سلطتها، إذ يقوم منطق هذه الديكتاتوريات على أن وجودها مهدد إن لم يكن هناك عدو دائم، داخلي أو خارجي، يُبرر له تعبئة الموارد واستنزاف الشعوب.
والان أليس من حق الشعوب أن تسأل: إلى متى هذا الدوران في الحلقة المفرغة؟ وإلى متى تُقاد كالقطعان من شعار إلى آخر؟
بلا شك إنها شوفينية مسمومة تتزيّا بقداسة زائفة، تعادي كل مختلف وتزدري كل مغاير، ولا تنتشي إلا حين تضع الشعوب في مواجهة بعضها، فإذا فرغت من ذلك انقلبت على نفسها، حرب بلا نهاية، فكر مسخ لا ينتج سوى إعادة إنتاج المأساة جيلاً بعد جيل، ولهذا لا غرابة أن يستبطن كثير من العرب هذه الكراهية حتى وهو يشكو منها، إذ تحولت إلى ما يشبه الغريزة الجمعية، ومع ذلك فإن هذا الوعي المشوّه لا يبرر استمرار الصمت، بل يفرض على كل صوت حر أن يصرخ في وجه هذا الوهم.
فإلى كل من يُفتن بهذا النوع من الخطابات نقول، إن هذا الصوت العالي لا يصنع نهضة، وهذه الشعارات الحماسية لا تبني وطناً، وكلما وُلدت نسخة جديدة من هؤلاء المعتوهين والمرتزقة زاد يقيننا بأن هذه المنطقة لم تتعلم شيئاً من قرن كامل من الانكسارات.