: آخر تحديث

طلال مداح في يوم ميلاده الخامس والثمانين

22
21
15

يوافق يوم 5 آب (أغسطس) من هذا العام الذكرى الخامسة والثمانين لميلاد قيثارة الشرق، وصوت الأرض، ورائد الأغنية السعودية، الفنان الراحل طلال مداح. وُلِد طلال بن عبد الشيخ بن أحمد بن جعفر الجابري في مكة المكرمة عام 1940، ليرحل عن عالمنا في أبها عام 2000، تاركًا خلفه إرثًا فنيًا ضخمًا لا يزال يتردد صداه في وجدان الأجيال. لم يكن طلال مداح مجرد مطرب وملحن، بل كان مؤسسًا لمدرسة فنية عريقة، ورمزًا للعطاء والإبداع الذي تجاوز حدود المملكة ليصل إلى قلوب الملايين في العالم العربي وخارجه.

بدأ طلال مداح مسيرته الفنية في فترة مبكرة من حياته، حيث اكتشف شغفه بالموسيقى والغناء في المدرسة. تعلّم العزف على آلة العود، التي أصبحت رفيق دربه ولسانه الموسيقي، ومنها انطلقت أولى أغانيه التي بثت على أثير الإذاعة السعودية، "وردك يا زارع الورد"، والتي لحنها بنفسه. كانت هذه الأغنية بمثابة فاتحة خير لمسيرة فنية حافلة بالنجاحات والابتكارات.

في ستينيات القرن الماضي، كان طلال مداح من أوائل الفنانين السعوديين الذين سجّلوا أسطوانات داخل المملكة العربية السعودية، وحصل على الأسطوانة الذهبية، مما يؤكد ريادته في هذا المجال. تميز بكونه أول فنان سعودي يسجل اسمه في جمعية المؤلفين والموسيقيين في فرنسا، مما يعكس اهتمامه بالانتشار الفني خارج الحدود المحلية.

تنوعت أعمال طلال مداح بين الأغاني العاطفية والوطنية والدينية، وقدم نحو 70 ألبومًا غنائيًا خلال مسيرة امتدت لحوالي خمسة عقود. كان يمتلك قدرة فريدة على المزج بين الأصالة والمعاصرة، حيث أدخل على الأغنية السعودية العديد من الأنماط الموسيقية الجديدة، بما في ذلك الأغنية الطويلة مثل "يا حبيب العمر" و"خلصت القصة"، وأغنيات ذات إيقاعات مستوحاة من الموسيقى الغربية مثل "وعد". لم يكن مداح مطربًا فقط، بل كان ملحنًا مبدعًا، وقد لحّن العديد من الأغاني لكبار المطربين العرب أمثال محمد عبده، وردة الجزائرية، فايزة أحمد، سميرة سعيد، وعبادي الجوهر، مما يؤكد مكانته كموسيقار شامل.

لقّب طلال مداح بعدة ألقاب تعكس عظمته الفنية وتأثيره العميق. فـ"صوت الأرض" جاء من قدرته على التعبير عن المشاعر الإنسانية بصدق وعمق يلامس الروح، بينما "قيثارة الشرق" يشير إلى إتقانه العزف على العود وقدرته على استخلاص أجمل الألحان منه. كان محمد عبد الوهاب، "موسيقار الأجيال"، يثني على حنجرة طلال مداح ويعتبره "زرياب"، في إشارة إلى الموسيقار الأندلسي الأسطوري، مما يدل على المكانة الرفيعة التي وصل إليها طلال في عالم الموسيقى العربية.

لم يقتصر إبداع طلال مداح على الغناء والتلحين، بل خاض تجربة التمثيل أيضًا، فشارك في فيلم "شارع الضباب" عام 1967 ومسلسل "الأصيل". كما كان من المشاركين الرئيسيين في أوبريت المهرجان الوطني للتراث والثقافة "الجنادرية" السنوي لمدة 11 عامًا، ولحّن وغنى أول نشيد للمهرجان بعنوان "عز الوطن" عام 1988، وغنى ولحّن الأغنية الوطنية الشهيرة "وطني الحبيب"، لتصبح هذه الأعمال جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الوطنية السعودية.

رحل طلال مداح عن دنيانا في 11 آب (أغسطس) 2000، أثناء أداء وصلة غنائية على خشبة مسرح المفتاحة في أبها، ليختم مسيرة فنية حافلة بذكراه الخالدة. وعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين على وفاته، إلا أن صوته لا يزال عالقًا في الذاكرة، وأغانيه ما زالت تُبث وتُسمع، وتحافظ على مكانتها كجزء لا يتجزأ من التراث الموسيقي العربي.

إدراكًا لأهمية إرثه الفني، قامت المملكة العربية السعودية بتكريم طلال مداح بطرق متعددة:

في عام 2023، احتفى موسم الرياض بـ "ليلة صوت الأرض" تكريمًا للفنان الراحل، شارك فيها كوكبة من ألمع نجوم الفن في المملكة والخليج والعالم العربي على مسرح محمد عبده. كانت هذه الليلة بمثابة اعتراف رسمي وشعبي بمكانته الاستثنائية.

تم إطلاق اسم "صوت الأرض" على استوديو SSL، أحد استوديوهات مرواس، تكريمًا له ولعائلته، مما يضمن تخليد اسمه في فضاءات الإبداع الموسيقي.

تعمل هيئة الموسيقى على حفظ إرث طلال مداح وتوثيق أعماله الفنية، حيث أعلنت عن توثيق 85 عملاً فنياً من إرثه، وهي خطوة تاريخية تعكس التزام المملكة بالحفاظ على تراثها الثقافي والفني للأجيال القادمة.

لا يمكن المبالغة في تقدير تأثير طلال مداح على الأغنية السعودية والعربية. لقد كان رائدًا ومبتكرًا، مهد الطريق أمام أجيال من الفنانين لتقديم أنواع موسيقية جديدة. لقد أسس "المدرسة الطلالية" في الغناء السعودي، والتي تتميز بالعمق والإحساس والقدرة على دمج الألوان الموسيقية المختلفة.

في ذكراه الخامسة والثمانين، لا نحتفل فقط بعيد ميلاد فنان، بل نحتفل بمسيرة أسطورة شكلت وجدان أمة، وساهمت في إثراء المشهد الفني العربي بأسره. يظل طلال مداح رمزًا للإبداع والتجديد، وستظل أعماله محفورة في ذاكرة الأجيال، تُلهم وتطرب، وتؤكد أن الفن الحقيقي لا يموت.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.