قبل تسعة أشهر، وفي بودكاست بثّته إحدى المنصات، أدلى القيادي في حركة حماس الإرهابية، أسامة حمدان، بتصريح لا يقل خطورة عن كونه اعترافًا صريحًا ببنية ذهنية ترى في التضحية بالمدنيين أمرًا ثانويًا، لا بل ضروريًا لخدمة القيادة والمقاتلين. قال حرفيًا: "مو لازم إنه حدّ يتخيل إن التضحيات… والله إنه استشهد الشعب أو استشهدوا النساء والأطفال… التضحيات يجب أولاً أن تُنظر إليها في صفوف المقاتلين.. المجاهدين.. وفي صفوف القيادة". لم تكن هذه الكلمات زلّة لسان، ولا حماسة لحظية، بل هي انعكاس صادق لأيديولوجيا تضع “الصفوف العليا” في مرتبة النقاء، وتستثمر بالصفوف الدنيا لتديم بقاؤها في موقع القيادة.
استحضار هذا الخطاب اليوم ليس استذكارًا إعلاميًا بقدر ما هو تفكيك منهجي لخطاب يتلاعب بمفاهيم الشهادة والتضحية، ويطالب الشعوب العربية بتحمّل المسؤولية والمحاسبة أمام الضمير وأمام السماء، في مشروع ليس لهم فيه يد، ولم يعُد يخصّهم، ولم يعُد يُعبّر عنهم. فالذي تُفصح عنه هذه التصريحات، قديمها وحديثها، هو أن هذا التنظيم الشرير لا يرى في الإنسان الفلسطيني مواطنًا، بل رصيدًا قتاليًا، وكلما ازدادت الجثث، ارتفعت أسهم المشروع في سوق المزايدات السياسية.
لم يكن حمدان وحده في هذا النهج، فصاحبهم السابق إسماعيل هنية نفسه، قالها بوضوح: "نحتاج دماء الأطفال والنساء"، وكأنّ التضحية بغير المقاتلين ليست مأساة بل ضرورة سياسية. أما خالد مشعل، فكان أكثر وقاحة حين وصف القتلى المدنيين بأنهم "خسائر تكتيكية"، وهي عبارة لا تُستخدم عادة إلا في أدبيات الحرب الباردة، أو في سجلات الجيوش الغازية. هذه ليست تصريحات عابرة، بل وثائق دامغة تؤكد أن الدماء، في فكر هذا التنظيم، ليست إلا أداة ضغط أو وسيلة لتحريك الرأي العام، طالما أنها لا تُراق في مكاتب القيادة أو فنادق الشتات.
صحيح أن هذه الاعترافات ليست جديدة، لكن أهمية تسليط الضوء عليها اليوم تتجاوز التوثيق، لتصل إلى قلب سؤال أخلاقي، وهو، كيف تطالب قيادات حماس ومن يمثلهم الشعوب العربية بتحمّل ذنب ومسؤولية لا علاقة لهم بها، ويُحمّلونهم وزر صمتهم أو عدم انخراطهم، في مقابل أمر شاذ وغريب، إذ إن هذه القيادات الشريرة لحماس هي نفسها تحتقر شعبها، وترخص بأطفالها، ويختصرون عمل نساءهم في وظائف بيولوجية لتجديد خسائرهم البشرية؟ ما الذي بقي من أي مشروع وطني إذا كان الاحتياطي السكاني هو رأس المال الأساسي فيه؟
حين تُفاضل القيادة بين من يستحق الموت ومن يُعوض، فإنها تعلن بصوت عالٍ أن الشعب مجرّد غطاء بشري، وأن الأفراد ليسوا إلا رصاصات تُطلق عند الحاجة وتُنسى بعد الاستهلاك. حتى الشهادة في الموت، التي يجب أن تكون ميثاقًا نقيًا لا يُمنح إلا للمدافعين عن الحياة والحق، تحوّلت في خطاب هذا التنظيم إلى سلعة تُروّج في المناسبات، وتُباع في نشرات الأخبار، وتُشهر كلما خفَت حضور الحركة في الإعلام أو في مزادات السياسة الإقليمية. والأخطر من ذلك أن مفهوم الشهادة نفسه قد سُحب من عموم الشعب، ومن النساء والأطفال الذين يُساقون للموت، ليُمنح حصرًا للدوائر المحيطة بالقيادة ومن والاها، كأنّهم وحدهم من يستحق أن يُوصف بـالتضحية، وأن يُحتفى بموتهم، فيما بقيَ الآخرون مجرد وقود صامت، لا يُذكَر إلا في سياق المبالغة أو التبرير.
إن المرأة الفلسطينية، في هذا المنطق، ليست أمًّا حرة، بل آلة إنجاب تُعَوّض بها "الخسائر التكتيكية"، والطفل ليس مستقبلًا، بل مادة دعائية، والمواطن الفلسطيني ليس صاحب حق، بل مستهلكًا في دورة التضحيات. هذه ليست لغة نضال، بل خطاب مكرس للذبح، ويعيد تسويق الجريمة باعتبارها فضيلة.
فالتنظيم الذي لم يرحم شعبه، وأحرقه حرفيًا في نظرية "أهل الأخدود" التي تبنّاها يحيى السنوار، ليس جديرًا إلا بلقب واحد، تنظيم إرهابي دموي، إنه هو الذي ساق أهله إلى النار، وأغلق عليهم جحيمه، ثم وقف على حافته يصفّق للّهب وهو يتصاعد من أجسادهم. فماذا يُنتظر من جماعة كهذه؟ من أباح الدم في أهله، لا يُرتجى منه عقل ولا شرف ولا دين. وإذا كان هذا ما يفعله بشعبه، فكيف سيرحم غيره؟ ومن يطالب العرب اليوم بتحمل تبعات هذا الجنون، إنما يطالبهم بالتواطؤ مع جريمة مكرّسة ضد الإنسانية، وضد العقل، وضد كل معنى للحياة.
لا يحق لأحد أن يُحمّل الشعوب العربية، التي اختارت الاستقرار والتنمية، وزر مشروع دموي يُدار من فنادق ودوائر علاقات عامة. ليست قضيتنا أن نموت مع من اختاروا طريق الاستنزاف، ولا أن نهتف لمن يُتقن التلاعب بالجنازات أكثر من مواجهته للحقيقة. القضية، كما نراها، تحوّلت إلى منصة استثمار، فيها القتل يمجد، والبكاء سياسة، والمظلومية أصل تجاري طويل الأجل.
لقد آن أوان إسقاط هذا الخطاب الدموي من جذوره، لا لأنه فشل، بل لأنه جريمة مستمرة ضد الشعب الذي يزعم تمثيله، القضية لا تُبنى على جماجم الأطفال، ولا على دموع الأمهات، بل على كرامة الإنسان وحقه في الحياة أولًا، ومن أراد حقًا أن يحرر فلسطين، فليبدأ بتحرير الفلسطيني من جحيم التنظيم الذي سحله باسمه، وتاجر بموته، وأقفل عليه كل أبواب النجاة.