لم تعد بيئات العمل الحديثة تُدار بالسؤال التقليدي: هل أُنجزت المهمة؟ فهذا السؤال، على أهميته، أصبح قاصرًا عن قياس القيمة الحقيقية للعمل. في زمن التحولات الاقتصادية والإدارية الكبرى، تغيّر المعيار من مجرد إغلاق المهام إلى تقييم الأثر الناتج عنها. الإنجاز حدث مؤقت، أما الأثر فهو تغيير مستدام ينعكس على الأداء، الكفاءة، وتجربة المستفيدين.
كثير من المؤسسات لا تعاني من ضعف في كفاءاتها بقدر ما تعاني من هدر غير مرئي في الوقت والجهد. نماذج إدارية حديثة مثل الإنتاج الرشيق (Lean) وتحليل سلسلة القيمة (Value Stream Mapping) تُستخدم عالميًا لتحليل تدفق العمل خطوة بخطوة، والتمييز بين الأنشطة التي تضيف قيمة فعلية وتلك التي تستهلك الوقت دون أثر حقيقي.
تشير بعض الأدبيات الإدارية ودراسات الحالة المرتبطة بهذه النماذج إلى أن نسبة ملحوظة من وقت الموظفين تُصرف قبل التحسين في أنشطة غير ذات قيمة، مثل التكرار الإجرائي، طول دورات الموافقة، وكثرة التنسيق غير الضروري. وفي تطبيقات عملية موثقة، أدى استخدام خارطة تدفق القيمة إلى تقليل هذه الأنشطة بشكل ملموس وتحسين الطاقة الإنتاجية، ليس عبر زيادة الجهد، بل عبر إعادة تصميم طريقة العمل نفسها. هذه النتائج تؤكد أن التحدي في كثير من الأحيان لا يكمن في أداء الأفراد، بل في ثقافة إدارية تقيس الانشغال أكثر مما تقيس الجدوى.
ثقافة الأثر تعيد تعريف دور الموظف. فبدل أن يكون منفذًا جيدًا، يصبح شريكًا في التفكير. الموظف المؤثر لا ينتظر التعليمات التفصيلية، ولا يكتفي بتنفيذ ما طُلب منه حرفيًا، بل يسأل عن الهدف النهائي، ويقترح طرقًا أقصر، وأكثر كفاءة، وأقل تكلفة. وغالبًا ما يكون هذا النوع من الموظفين أقل ضجيجًا، لكنه الأكثر تأثيرًا على المدى الطويل.
في المقابل، لا يمكن أن تنشأ ثقافة الأثر في بيئة قيادية تقيس النجاح بعدد الساعات أو حجم التقارير. القائد الواعي يدرك أن الأثر لا يُقاس بالكثرة، بل بالنتيجة. لذلك، تتجه المنظمات المتقدمة إلى إعادة تصميم مؤشرات الأداء لتشمل جودة القرار، تحسين العمليات، ورضا المستفيد، لا مجرد سرعة التنفيذ.
تجربة التحول الوطني في المملكة تقدم نموذجًا واضحًا لهذا التوجه. فرؤية السعودية 2030 لم تُبنَ على منطق الإنجاز السريع فقط، بل على إحداث أثر طويل المدى في الاقتصاد والمجتمع ونمط الحياة. لم يكن التحدي في إطلاق المبادرات، بل في ضمان استدامة نتائجها، وهو ما ينعكس اليوم في تحولات ملموسة تمس مختلف القطاعات.
المفارقة أن ثقافة الأثر لا تعني العمل أكثر، بل العمل بذكاء. كثير من القرارات المؤثرة بدأت بسؤال بسيط، أو بمراجعة إجراء اعتاد الجميع عليه دون مساءلة.. الأثر الحقيقي غالبًا لا يُصنع في اللحظات الصاخبة، بل في التفاصيل الصغيرة التي تغيّر المسار.
في النهاية، ستبقى المنظمات التي تكتفي بثقافة الإنجاز عالقة في دائرة التكرار. أما المنظمات التي تتبنى ثقافة الأثر، فهي التي تصنع الفارق وتبني مستقبلها بثبات.. فالسؤال الأهم لم يعد: ماذا أنجزنا؟ بل: ماذا تغيّر لأننا كنا هنا؟

