ما إن سقط نظام الأسد حتى عمّت الغبطةُ وجوهَ السوريين عبر أصقاع البلد، على اختلاف الانتماءات القومية والدينية، باستثناء أدواته التي تربّت في كنفه واستفادت من امتيازاته، وهي - للتاريخ - أدوات لا تُختزل في طائفة، بل كانت تمتد وتتموضع داخل طائفة النظام و تشمل بطانات المنتفعين: "السني" كما العلوي والدرزي، والمسيحي كما المسلم، وإن ضمن خصوصيات يمكن دراستها، على نحو خاص، وحاولت مقاربة ذلك في مقالات سابقة. هنا - تماماً - بدأ امتحان الوطنية على الأرض لا على اللافتة. أذكر - هنا - أننا كمثقفين كرد، ومع معرفتنا المسبقة بمنشأ السلطة الجديدة وسيرتها، سعينا إلى صياغة رسالة تحمل قرابة مئة وسبعين توقيعاً تدعو إلى طور سوري جديد ينتقل بالسوريين من مرحلة الاستبداد إلى مرحلة العدالة والديمقراطية والمساواة، وتُصان فيه الحقوق الكردية بالنصّ الدستوري لا بحُسن النوايا، عسى وعل النظام الجديد يراجع ذاته، طالما إن الفرصة باتت تتاح له: من داخل الوطن وخارجه، لاعتبارات لا تتعلق به، بل بمصلحة السوريين وسورياهم. لكن ما جرى - مع الأسف - خيّب الأمل، إذ تسلّل الإرهاب الجديد - تدريجياً - من الباب الذي خرج منه الإرهاب السابق.
لقد عقد في دمشق ما سُمّي بمؤتمر النصر يوم 29 كانون الثاني (يناير) 2025، وهو عنوان مخادع يزعمُ انتصاراً لم يتحقق في الواقع، ويُسَوِّق لمرحلة أشد استبداداً ضد الكرد، ولخارطة تمثيل تُبعد الكرد الذين حَموا مناطقهم، وتُقَرِّب وتحتضن بل وتعتمد أكثر ممّن ارتكبوا الجرائم بحق السوريين من بينهم فلول الدواعش والفصائل، مع أنَّ الحروب لا تخلو من انتهاكات مهما علا دوي الشعارات المزيفة. وقد تلت ذلك سلسلة مؤتمرات المحافظات التي صُنعت على المقاس ذاته من خلال: توحيد خطاب فوقي، وتفكيك تمثيلات فعلية في الداخل، بل التخطيط لإبادة هويات. ثم جاء في دمشق ما سُمّي بالمؤتمر الوطني يوم 25 - 26 شباط (فبراير) 2025 ليُقفل القوس على مركزية تُعيد تدوير الإقصاء؛ حوارٌ مُعلّب لا يفتح إلا على المعزوفة القديمة: قبول أفراد من الكرد بوصفهم "مواطنين بلا أطر"، ورفض الكتل والقوى التي صنعت حضورها عبر تاريخ مقاومة معروفة، وقد واجهت الأنظمة الدكتاتورية تاريخياً وحطمت تماثيله قبل كل من يدعون أنهم قدموا مليون شهيد سوري، إذ إن هؤلاء الضحايا والمهجرين هم أبناء المكونات السورية كلها، لا سيما الكرد.
ونتذكر أنَّ ممثلي الحركة الكردية التاريخية: الدكتور حكيم بشار نائب رئيس الائتلاف، وأ. إبراهيم برو عضو لجنة التفاوض العليا، توجها إلى دمشق ليهنأا السوريين بسقوط نظام الطاغية المجرم بشار الأسد، وبقيا شهرين كاملين، من دون أن يستقبلهما السيد أحمد الشرع، متوهماً أنَّ التاريخ السياسي يُقاس باللقب لا بالنضال الميداني، النضال الأقوى من نضال زمن التسليح الممول، فيما درجته النضالية لا تذكر كما درجة كل من معه من قادات الميليشات الحاكمة عندما كان مناضلو سوريا، بمشاربهم المتعدّدة، يدفعون ثمن الكلمة والموقف، ومن بينهم المذكوران رغم مآخذي على مرحلة وجودهما في تركيا، ضمن الائتلاف الذي كان لا بد منه. وقد لزم التنويه بمقام "الرئاسة" احتراماً للموقع. فقد التقاهما السيد أحمد الدغيم بصفته الشخصية، وهو الذي لا وزن ولا حاجة شخصية به من قبل الكرد، لولا مهمته الفضفاضة المفروضة إقليمياً، لاعتبارات وقالها صريحة: اللقاء شخصي. سؤالُ الوزن السياسي هنا لا يُهين أحداً، إنما يُعيد كل شيء إلى موضعه. وفي المشهد الأوسع، طار السيد هادي البحرة إلى دمشق، فلم يُستقبل بوصفه رئيساً للائتلاف بل كسوري منفصل عن إطاره، وتلقّى الرسالة واضحة: الحكم الجديد لا يقبل كتلًا ولا أحزابًا ولا تمثيلاً مؤسساتياً، بل أفراداً بلا سند. هنا انسحب المجلس الوطني الكردي من الائتلاف قبل أن يحلّ الائتلاف نفسه.
وكان أمراً طبيعياً، غير مستغرب أن تتمادى الوقائع في دراميتها، وترتكب مجازرُ طاولت علويين ودروزاً ومسيحيين، ويتم تصعيد محموم في وتيرة التحريض ضد الكرد عبر الإعلام ومنصّات التواصل حتى صار "أبسط فيسبوكي" أو" بثاث فتن" يبشّر بيوم "انتهاء قسد" وفي مخيلة كل منهما الصورة التي رسمتها ثقافته البيتية العنصرية عن الكرد ضمن مختبرات البعثين: غرب الفرات وشرقه، ناهيك عن ثأريته لداعش، بعد أن تمت إجازة المرافعة عنه، وكأن المطلوب تطهير سوريا من الكرد لا تصويب بوصلة السياسة. نعم، واجهنا سياسات حزب العمال الكردستاني، ولا نتقبلها حتى الآن، إذ عددناها - في صورتها تلك - دخيلة على مكاننا، وانتقدنا خيارات ب ي د، ونقدنا على نحو يومي أداء الإدارة الذاتية، لكن المفاضلة حين تصير بين أن يباد الكرد أو أن يعيشوا في مكانهم، بل بين قسد التي تعمل بروح سورية رغم ما يمكن أن يساق من مآخذ، وبين ميليشيات منفلتة نواتها دواعش وأجانب وإرهابيون تحكم بالترهيب وتستقوي بالفوضى، يصبح الخيار واضحاً. غياب قسد يعني فتح الباب للمجازر، يعني إبادة الكرد. يعني اقتتال المكونات، وهذا ما يدركه الكرد من دون أن يُسقطوا ملاحظاتهم، وهو ما يدركه السوريون المنضوون تحت لواء قسد. أجل، إنه على الضفة الأخرى، تماماً، يقاتل من يحارب الكرد بدوافع فلولية داعشية، لأن انتصار قسد على داعش وفلول الميليشيات جرحٌ مفتوح في وعيه.
هنا يمكن أن ينظر إلى مؤتمر الحسكة، الذي انعقد باسم مؤتمر مكونات شمال وشرق سوريا، 8 آب (أغسطس) 2025، بتشكيل سوري واسع: كرد، عرب، علويون، دروز، مسيحيون، ومسلمون سنة من خارج مستنقع الميليشيات، ما دعا لأن نرى أنه مع أية مقارنة بين المؤتمرين فإنَّ الوطنية هي هناك في المؤتمر الحسكي الذي لم يستبعد أحداً، وكانت أبوابه مفتوحة لأي طرف وطني. كما إنه، في المقابل، يبدو مؤتمر دمشق بطبعته "اللاوطنية" نسخةً أقلويّة طائفية حاضنةً للإرهاب السياسي، رغم مشاركة مُغرَّر بهم وطلّاب مصالح يلوذون بأي سلطة جديدة.
كما لا بد - هنا - من وضع وثيقة الجنرال مظلوم قسد - والسيد أحمد الشرع في إطارها الصحيح، لأنها مجرد وثيقة خاصة بشمال شرق سوريا، تُعالج وقائع تلك الرقعة ومقتضياتها، ولا تصلح أن تُسَوَّق كميثاق وطني جامع. لأن تشدق وتمسّكُ ّ"أقلويّي دمشق" بها - كنوع من البهلوانية الخبيثة - التفافٌ على خصوصيتها القومية والسياسية، ورغبةٌ في مصادرة ما ينتمي لسياق محليّ لرفعه واجهةً لسلطة مركزية جديدة. أمّا حقوق القضية الكردية في سوريا فحملتها بوضوح مخرجات مؤتمر قامشلو يوم 26 نيسان (أبريل) 2025. اتفاق الطرفين الكرديين هناك يرسّخ حقاً قومياً ضمن إطار وطني، لا يُختزل في بند واحد ولا يُستعار لتزيين واجهةٍ في دمشق. ويحسب لمؤتمر الحسكة أنه اعتبر اتفاق/مؤتمر قامشلي هذا، من عداد أهمّ بنوده، اعترافاً بوزن القضية الكردية في مكانها السوري الطبيعي؛ هكذا يفكر السوري الحر: عربياً كان أم كردياً. مسيحياً كان أم مسلماً. درزياً كان أم علوياً.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ حضور المجلس الوطني الكردي في مؤتمر الحسكة كان سيعد خطوةً مفيدة، في رأيي، لو أنه تم، إلا أنّ مسوّغات الغياب مقدرة لأكثر من داع: مؤتمر الحسكة مؤتمرٌ لسوريا كلّها، بينما اتفاق 26 نيسان (أبريل) له خصوصيته القومية الكردية التي لا نقبل ككرد أن يستفرد بها أي طرف خارج الإجماع الكردي. الفاصل بين المقامين يحفظ الخصوصيات ولا يشتّت الجهد. حيث يعمل مؤتمر الحسكة على توحيد الأكثريّة الوطنية، وهزيمة الأقلية المتسلّقة على الشعارات، وهي ترتدي لباس الوطنية الفضفاض، بلونه الأسود، لأن مسار توطين السياسة يتم في فضائها وبيئتها، لا في غرف مغلقة تُدار فيها الأختام من فوق، في استعادة لدكتاتورية مستنسخة عن سلوك نظام الأسدين المجرمين.
لقد تجلّت الفكرة في بساطتها ووضوحها وشفافيتها: سوريا اليوم في الحسكة. وجود كرد وعلويين ودروز ومسيحيين، وقبل ذلك وجود وتصدر عرب ومسلمين سنة، خارج السمسرة التي يمارسها ممثلو ميليشيات دمشق، يعني أنّ المستقبل ليس إلا للامركزية التي يطالب بها السوريون الأحرار، حرصاً على سورياهم، وإن طال الطريق أو قصر، فإنه لا يمكن لإرهابيين وافدين من جنسيات وأصقاع شتّى أن يكونوا أكثر وطنية من أبناء الأرض الذين اجتمعوا تحت سقفٍ واحد رغم التهديد والحرب الإعلامية الخبيثة الممولة: تركياً وقطرياً ناهيك عن سواهما إن وجد. تلك هي الفجوة بين مؤتمرين حيث: مؤتمر الحسكة وطنيٌّ حقيقي لأنَّ قاعدته بشرٌ أبناء مكان لا شعارات، ومؤتمر دمشق انفصاليٌّ أقلويٌّ طائفيٌّ حاضنٌ للعنف وإن تزيّن بخُطب المصالحة.
وتأسيساً على ذلك، فإن تلتق الوقائع بالزمن، تنكشف الحيلة من الحقيقة. وثيقة الجنرال والسيد الشرع وثيقةُ منطقة لا دستور بلد، واتفاق قامشلي 26 نيسان (أبريل) منطلق لم شمل سوري، ومرجعٌ للحقوق لا زينة خطابات مزيفة، والحسكة فضاء اجتماعٍ تتقدّم فيه الأكثرية السورية - تمثيلاً - بمسؤولية، فيما دمشق بنسختها المؤتمريّة الأخيرة لا تحرسُ إلا عمرانَ السلطة التي تخطط لسوريا من لون واحد لن يكون البتة. هكذا تُكتب الوطنية من جديد: لا تسقط من سماء، ولا تُستعار من عناوين، بل تُبنى بعرق من اجتمعوا أمس في الحسكة، ودم من وُجِدوا في الصف الأول حين احتاجتهم سوريا حقّاً.