كثيراً ما تعترض طريق الإنسان في هذه الحياة عوائق شتّى، لكن قلّ أن نجد عائقاً يبلغ من الثقل ما يبلغه الوعي. فهو في آن واحد العائق الأكبر والمفتاح الأثمن؛ يحمل في طياته القدرة على كشف الحقائق وإضاءة الزوايا المظلمة، لكنه ليس دائماً نعمة مريحة يسهل حملها. بل هو، في أحيان كثيرة، امتحان عسير، يُرغم صاحبه على أن يقف وجهاً لوجه أمام مرآة ذاته، وأن يصارع صورة المجتمع كما هي، لا كما يتمنى أن يراها.
الوعي لا يترك لصاحبه رفاهية الانغماس في الأوهام أو الاحتماء خلف الزيف الجماعي؛ إنه كاشف عن العيوب، فاضح للمستور، وقادر على أن يزلزل ثوابت يظنها الناس غير قابلة للجدل. ومن هنا، فإن حمله يتطلب شجاعة نفسية لا يملكها كل أحد، وصبراً اجتماعياً على ما يثيره من جدل ومقاومة في بيئة ربما لا ترحب بمن يطرق أبواب الحقيقة.
الأمم التي لا وعي فيها، مهما كان صخبها وضجيجها، ليست سوى فراغ يتدفق بالكلام، فراغ تتلاطم فيه الأصوات كما تتلاطم أمواج البحر الهائج، من دون أن تحمل قطرة واحدة من ماء الحياة. أمة بلا وعي تشبه مدينة بُنيت على عجل، جدرانها متشققة، وأزقتها متاهات، وأسواقها مكدسة بالسلع الزائفة. قد تجد في طرقاتها لافتات كبيرة وواجهات لامعة، لكنك إن اقتربت، لن ترى إلا تكراراً باهتاً لأفكار مستهلكة، أو عبارات جوفاء لا تمس صميم الواقع.
ولعل الموروث الإنساني، في حكمته المتراكمة عبر العصور، عبّر عن ذلك بدقة مذهلة. حين يقول المثل: "من فمك أُدينك"، فهو لا يشير إلى مجرد سقطة لفظية، بل إلى حقيقة أعمق: أن الكلام يفضح صاحبه أكثر مما يعبّر عنه. وعندما نسمع وصية الحكيم: "فليقل خيراً أو ليصمت"، فإنها ليست مجرد دعوة للأدب في الحديث، بل تحذير من خطورة الكلمة حين تخرج بلا وعي، وكيف يمكن أن تصبح سهماً مرتداً يجرح قائله قبل أن يصيب غيره. أما القول: "الكلام صفة المتكلم"، فهو يضع النقطة على الحرف في جوهر المسألة: أن ما يخرج من الفم ليس إلا انعكاساً لما يفيض به الداخل. و"الإناء ينضح بما فيه"، عبارة أخرى ترسخ هذه الفكرة في صورة حسية واضحة: أن المضمون الحقيقي للإنسان لا يمكن إخفاؤه، وأن ما يملأ القلب والعقل لا بد أن يفيض، شاء صاحبه أم أبى.
لكن، حتى لو حضر الوعي في ساحة الفكر أو الخطاب، فإننا سنجد أنفسنا أمام تحديات لا تقل خطورة: الانحياز، غياب الموضوعية، اتخاذ المواقف المسبقة، النفاق، المصلحة الضيقة، الانتهازية، النفعية، أزمة الضمير… قائمة طويلة من أمراض الروح والفكر، تكفي لشل حركة أي مجتمع مهما امتلك من علم أو ثقافة.
الوعي، حين يتلوث بهذه الآفات، يتحول من أداة تحرير إلى أداة تبرير. يصبح سلاحاً في يد الانتهازي، يبرع في صياغة الكلمات، لكنه يوجهها لخدمة مصلحته الخاصة. يصبح ملكاً للنَّفعي، الذي يقيس قيمة الأفكار بمدى ما تجلبه له من ربح، لا بمدى ما تحققه من حق وعدل. يصبح أداة في يد المنافق، الذي يحترف لبس الأقنعة، ويتقن تمويه الحقائق، حتى تلتبس على الناس ملامح الصدق.
ولذلك يظل السؤال معلقاً في فضاء الفكر: كيف يمكن للكلمة أن تكون "حقاً" إذا كان صاحبها كاذباً أو أسيراً لأهوائه؟
إن الحق ليس في النصوص وحدها، بل في نوايا من ينطق بها، وفي نزاهة الطريق الذي سلكه للوصول إليها. الحق، في جوهره، فعل أخلاقي قبل أن يكون فكرة عقلية.
من الناحية النفسية، الوعي ليس حالة ذهنية فقط، بل هو عبء شعوري. أن تدرك يعني أن تُحمل بالمسؤولية، أن ترى ما لا يريد الآخرون رؤيته، أن تسمع الصمت بين الكلمات، وأن تلتقط الظلال التي يحاول الناس إخفاءها تحت ألوان زاهية. ولهذا، كثيرون يهربون من الوعي، ليس لأنهم لا يقدرون على اكتسابه، بل لأنهم يخشون ما سيجلبه معهم من مواجهة الذات، ومن مواجهة الحقيقة التي قد تخلخل أسس حياتهم.
هناك راحة في الجهل، لكنها راحة موهومة، أشبه بظل شجرة في صحراء قاحلة، سرعان ما ينقضي بانقضاء النهار. أما الوعي، فهو طريق طويل، مرهق، لكنه الطريق الوحيد الذي يمكن أن يقود إلى حياة ذات معنى.
اجتماعياً، غياب الوعي يحول المجتمع إلى جسد ضخم بلا بوصلة. قد يتحرك، لكن حركته عشوائية، وقد يبني، لكن بناءه بلا رؤية، وقد يعلو صوته، لكن صوته بلا كلمة فاصلة. في مثل هذا المناخ، يزدهر الخطاب الشعبوي، ويتسيد من يبرع في دغدغة العواطف، بينما يتراجع من يطرح أفكاراً جادة تتطلب صبراً وفهماً عميقاً.
في التاريخ القريب والبعيد، رأينا كيف أن أمماً امتلكت موارد هائلة، وقوة بشرية جبارة، لكنها انهارت أمام نفسها قبل أن تنهار أمام عدو خارجي. السبب؟ لأنها كانت تفتقر إلى وعي جمعي قادر على توجيه هذه الطاقة في مسار واضح.
التاريخ البشري مملوء بالشواهد على أن الوعي، أو غيابه، هو ما يحدد مصير الأمم. في الحضارة الإسلامية، حين كان الوعي الديني والعلمي والفكري حاضراً في العقول، لا في الشعارات فقط، عرفت الأمة نهضة شملت الطب والهندسة والفلك والفلسفة. لكن حين تراجع هذا الوعي، وحل محله التعصب والانغلاق والانشغال بالقشور، دخلت الأمة في عصور من الجمود والتراجع.
وكذلك الحال في حضارات أخرى: روما العظيمة انهارت، ليس لأنها فقدت جيوشها، بل لأنها فقدت وعيها برسالتها، واستسلمت للترف والانقسام الداخلي.
لو شبهنا الوعي بالهندسة المعمارية، لوجدنا أن المجتمع الواعي يشبه مدينة بُنيت على أسس مدروسة، حيث تتوزع المباني وفق رؤية، وتُشق الطرقات لتربط الأحياء، وتوجد مساحات خضراء للراحة، ومراكز للعلم والمعرفة. أما المجتمع بلا وعي، فهو أقرب إلى تجمع عشوائي، تُبنى فيه البيوت بلا تخطيط، وتتصادم الطرقات، وتهدم الجدران كما تُبنى، فلا جمال ولا انسجام.
في نهاية المطاف، تظل أزمة الضمير هي أصل الداء. فقد تجد إنساناً مثقفاً، ملمّاً بمبادئ العدالة والمنطق، لكنه يبيع ضميره عند أول منعطف مصلحة. وقد ترى خطيباً مفوهاً، ينطق بكلمات الحق، لكنه يستخدمها ليخفي باطله. هنا يصبح الوعي، بكل ثقله وقيمته، مجرد أداة تجميلية تخدم أهدافاً مشوهة.
إن الكلمة الحق، لكي تبقى حقاً، تحتاج إلى حامل نزيه، وإلى قلب لا تضلله المنافع، وإلى عقل لا يعميه الانحياز. الحق ليس في الألفاظ، بل في من يقيم العدل بها، وفي من يجعلها جسراً إلى الخير، لا سلاحاً للهيمنة.