أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 28 تموز (يوليو) الماضي، عن التوصل إلى اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي، وفق الشروط التي وضعها. وإذا كان هذا الاتفاق أنهى حالة من الضبابية الممزوجة بالتوتر وعدم اليقين إزاء انسيابية سلاسل التوريد واستمرارية قواعد التجارة العالمية، فإنه في الوقت نفسه شكّل في بنوده والتزاماته ضربة جيوسياسية واقتصادية لبروكسل.
هذه الضربة لم تظهر نتائجها بعد، لكن المؤشرات على مدى فداحتها راحت تتبدى من خلال مواقف القادة والنخب ووسائل الإعلام في أوروبا، والتي اعتبرت أن بروكسل أبرمت اتفاق إذعان ورضخت لإملاءات ترامب، الذي حقق خبطة استراتيجية تضمن لواشنطن إيرادات ضخمة تنسجم مع وعود تياره السياسي "ماغا".
يوم قاتم
"إنه ليوم قاتم يقرر فيه تحالف شعوب حرة مجتمعة لتأكيد مبادئها والدفاع عن مصالحها، الإذعان". هكذا وصف رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا باليرو الاتفاق التجاري بين أميركا وأوروبا في تغريدة له عبر منصة "أكس". هذا الموقف الصريح يعبر بدقة عن الموقف الفرنسي العام، وإلى حد كبير الموقف الأوروبي العام.
ذلك أن التمعن في تفاصيل وبنود هذا الاتفاق يكشف مدى الهيمنة الأميركية وحجم الخسائر الأوروبية، حيث ينص على شراء بروكسل مشتقات الطاقة من واشنطن بقيمة 250 مليار دولار سنويًا، وعلى مدى 3 سنوات، أي حتى نهاية ولاية دونالد ترامب.
اللافت أن الرقم المشار إليه يتجاوز قدرة الإنتاج والتصدير للولايات المتحدة، حسب بيانات إحصائية متخصصة، فضلًا عن تركيز بند الطاقة في الصفقة على الغاز الطبيعي المسال ليكون بديلًا عن الغاز الروسي، الذي كانت العديد من البلدان الأوروبية ما تزال تواصل شرائه عبر مسارات ملتوية للالتفاف على العقوبات، كما على قرار بروكسل فرض قطيعة اقتصادية مع موسكو. تشير البيانات إلى أن واردات أوروبا الطاقوية من أميركا خلال العام الماضي 2024 بلغت نحو 74.3 مليار دولار.
وهذا يعني أنه يتوجب على الاتحاد الأوروبي مضاعفة وارداته بنحو 4 أضعاف تقريبًا، حسب الاتفاق، مع ما لذلك من تأثير كارثي على الاقتصاد، خصوصًا في ظل ارتفاع تكلفة الطاقة الأميركية بالمقارنة مع مصادر أخرى، وفي طليعتها روسيا. في المقابل، اعتبر بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية أن ما جرى التوصل إليه بخصوص الطاقة ضمن الصفقة يعزز الهيمنة الأميركية على هذا القطاع الحيوي.
بروكسل وصلابة نيودلهي
أشارت العديد من التقارير الأوروبية إلى أنه في الوقت الذي كان بإمكان بروكسل استثمار العامل الروسي من أجل إبرام اتفاق أفضل مع أميركا، فإن أوروبا انجرفت إلى عداوة مطلقة مع موسكو، مما جعلها بين فكي كماشة في ظل محدودية الأدوات السياسية، وتراجع الدور على صعيد صياغة القرار الدولي، والذي ظهرت ملامحه منذ إصرار بريطانيا على الانفصال عن الاتحاد، بالرغم من كل المحاولات التي بذلتها القوى الأوروبية للحفاظ على الحد من مظهر التضامن والوحدة.
وتضرب بعض وسائل الإعلام الأوروبية المثال بالهند، والتي تسعى إلى تطوير علاقاتها ومصالحها مع واشنطن. ومع ذلك، رفضت نيودلهي الانصياع لإملاءات ونزق ترامب، وأصرت على استمرار شرائها للنفط والغاز من روسيا، بالرغم من تهديدات الأخير بفرض عقوبات على الدول التي لا تزال مستمرة في شراء النفط والغاز الروسيين، وسمى الهند بالاسم في واحدة من تصريحاته.
وبالفعل، منذ أيام قليلة اتخذ ترامب قرارًا برفع الرسوم الجمركية على الهند بنسبة 25 بالمئة، دون أن تفلح هذه الضغوط والأدوات الحساسة والفعالة في دفع الأخيرة إلى إبداء مرونة إزاء ما تعتبره يدخل ضمن تصنيف الأمن القومي.
وتشير وسائل الإعلام الهندية إلى إبرام صفقات جديدة على صعيد النفط والغاز مع روسيا دون الالتفات إلى العقوبات الأوروبية أو الإجراءات الترامبية، حيث توفر روسيا ما يقدر بـ 35 بالمئة من احتياجات الهند النفطية، ولن تندفع أبدًا إلى التفريط أو الإضرار بعلاقاتها الثنائية مع موسكو، خصوصًا في ظل صعوبة الحصول على بدائل نفطية في ظل الصراعات المندلعة في أكثر من جغرافيا، وارتفاع التكلفة بما يعود بالسلب على الاقتصاد.
وبالتالي، كان على بروكسل أن تتحلى بالصلابة التي أظهرتها نيودلهي، ولا سيما في ظل ما تعانيه الأخيرة من مشاكل اقتصادية بنيوية ومزمنة، وضعف نفوذها على الساحتين الإقليمية والدولية بالمقارنة مع أوروبا.
فقدان الثقة
تظهر مواقف وآراء النخب السياسية ووسائل الإعلام الأوروبية التي أعقبت الاتفاق نمو مناخ من فقدان ثقة القارة العجوز، ولا سيما القوى المؤثرة فيها، بالولايات المتحدة كشريك استراتيجي عريق. وهذا ما سيكون له تداعيات عميقة على العلاقات بين ضفتي الأطلسي على المدى البعيد.
تداعيات الاتفاق جعلت وحدة الاتحاد الأوروبي وتماسكه في المهداف، حيث تعرض إلى انتقادات هائلة بسبب عجزه عن تفعيل قدراته السياسية والاقتصادية، وخضوعه غير المبرر لإملاءات ترامب، والتي تسهم في تقويض الأسس التي ترتكز عليها قواعد العلاقات التجارية بين أوروبا وأميركا، وتمثل تحديًا لنظم التجارة العالمية مع تحويل مؤسسات عريقة مثل منظمة التجارة العالمية، وقواعد الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة وسواها إلى هياكل شبه ميتة ينبغي إعادة النظر في دورها وكيفية إصلاحها.
ومع ذلك، يبقى الأسوأ في نظر النخب السياسية وصناع القرار في أوروبا هي الغطرسة التي أظهرها ترامب بشكل فج في تخريج صورة الاتفاق الأميركي – الأوروبي، من خلال إجباره رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فان ديرلاين، على توقيع الاتفاق في أحد ملاعب الغولف التابعة له، من باب الإمعان في الإذلال والاستفزاز.
هذه المشهدية المذلة اعتُبرت على نطاق واسع بمثابة قرار بالاستسلام الطوعي، حيث بدت بروكسل وكأنها سلمت نفسها للجلاد الأميركي.. وبدون قتال، فيما القيصر الروسي فلاديمير بوتين يضحك في قصره على سذاجة القادة الأوروبيين.