: آخر تحديث

العصر السعودي: إعادة تشكيل حركة التاريخ

3
3
3

في نظرية النسبية التي صاغها أينشتاين، الزمن ليس ثابتًا أو مطلقًا، بل يتباطأ أو يتسارع تبعًا للسرعة وشدة الجاذبية. وإذا أسقطنا هذا المفهوم على التاريخ والسياسة، سنجد أن الأمم تتحرك داخل "حقول زمنية" سياسية–اقتصادية، حيث تستطيع بعض القيادات (وهي تلك التي تجمع بين وضوح الرؤية، وحسم القرار، وكفاءة التنفيذ، والقدرة على إعادة تشكيل السياق) ضغط المسافة بين الحاضر والمستقبل، بينما تظل أخرى أسيرة بطء تاريخي يستهلك فرصها.

التاريخ، في جوهره، ليس مجرد تسلسل زمني للأحداث، بل حركة تحكمها جدلية الحاجة والغاية الاستراتيجية: الحاجة تدفع الشعوب إلى الفعل، والغاية تمنح هذا الفعل شرعية واتجاهًا. هذه الجدلية قد تتطور ببطء في سياقات معينة، لكنها في لحظات حاسمة تشهد تسارعًا استثنائيًا، أشبه بـ"انحناء الزمن" في الفيزياء.

التجربة السعودية المعاصرة تقدم نموذجًا فريدًا لهذا النوع من التسريع التاريخي. عبر رؤية 2030، جرى تقليص فجوة الزمن بين التخطيط والتنفيذ، وتحويل مشاريع وأفكار كبرى إلى واقع ملموس خلال سنوات معدودة. ما استغرق عقودًا لدى دول أخرى، أُنجز هنا في أقل من عقد، دون الانزلاق إلى فوضى الحرق غير المحسوب للمراحل. كانت الحركة أشبه بالاقتراب من سرعة الضوء دون تحطم المركبة: قرارات شجاعة، كفاءة تنفيذية، واستثمار أمثل للموارد في صناعة التحول.

بهذا، أعادت السعودية صياغة "عصرها الخاص"، حيث أصبحت سنواتها النهضوية تعادل عقودًا في المقاييس التقليدية. والأهم أن هذا التسريع لم يكن استجابة لضغوط خارجية، بل كان فعلًا استباقيًا لصياغة المستقبل بدل انتظار تشكّله.

في أفق 2040، ومع استمرار الجمع بين الحاجة المتمثلة في ضمان البقاء وسط عالم سريع التحول، والغاية الاستراتيجية التي تعيد تعريف الدور السعودي كفاعل حضاري عالمي، ستتحول المملكة إلى قطب استراتيجي في نظام عالمي متعدد المراكز. ليس فقط بثقلها الاقتصادي، بل بقدرتها على إنتاج "المعادلات الجامعة" التي تربط بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وتقديم نموذج للاستقرار المتزامن مع التحول السريع.

من منظور فلسفة التاريخ، ما تفعله السعودية هو "إعادة هندسة الزمن السياسي"، أي تحويله من تيار طبيعي يفرض إيقاعه على الدول، إلى أداة يمكن التحكم في سرعتها واتجاهها. في نظريات القوة، امتلاك القدرة على ضبط الزمن هو جوهر السيادة الحقيقية، لأنه يحرر الدولة من رد الفعل ويمنحها موقع الفاعل الذي يسبق الأحداث لا يلحق بها. هنا يصبح الزمن ليس مجرد سياق تتحرك فيه السياسة، بل مادة خام يُعاد تشكيلها وفق إرادة القيادة، لتتحول السنوات إلى وحدات طاقة سياسية مضغوطة، قادرة على إحداث تحولات تعادل أضعاف ما تنتجه العقود البطيئة لدى الأمم الأخرى. وبهذا، يغدو "العصر السعودي" برهانًا عمليًا على أن التاريخ، شأنه شأن الفيزياء، يمكن أن ينحني أمام من يمتلك معادلاته. وفي زمن تتشكل فيه خرائط القوة، لا تنتظر السعودية حركة التاريخ، بل تمسك بقلمه لتكتب فصوله بإيقاعها الخاص.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.