في مقابلة حديثة عبر ديوانية محفوف، أطل الدكتور عبد الله النفيسي ليحذّر، بكل ثقة، من خطورة الانجرار وراء التحليل العاطفي، داعيًا إلى "القراءة النقدية" لما يجري في المنطقة وإلى الاحتكام إلى العقل في تحليل المشاهد السياسية لا سيما في محيطنا العربي، مُعتمدًا أسلوبًا فوقيًا ومتغطرسًا إلى حدٍ ما. لكنه سرعان ما دَهس هذه القاعدة بقدميه، حين انتقل إلى تسطيح التاريخ وتزويره، مستخدمًا اسم المؤرخ الكبير فيليب حتّي، لبناء سردية شيطانية بحق طائفة الموحدين الدروز، في زمنٍ سياسي وأمني حَرِج تمر به منطقة السويداء في سوريا.
في المقطع المُتداوَل، يزعم النفيسي أن فيليب حتّي كتب أن "الدروز في فلسطين هم أدوات الصهيونية"، وكأن تاريخ طائفة الموحدين يمكن اختزاله بعبارة، وكأن نضالاتها الوطنية في سوريا ولبنان وفلسطين يمكن شطبها بجملة مرتجلة.
لكن الحقيقة مختلفة تمامًا. من يَسبُر أغوار كتاب تاريخ العرب لفيليب حتّي، الذي صدر للمرة الأولى عام 1937، سيجد أن المؤلف تناول الطائفة الدرزية كجزء من الموزاييك الديني والتاريخي للمشرق العربي، وسلّط الضوء على دورها في مقاومة الدولة العثمانية، وعلى استقلالية قرارها السياسي والديني. لم يستخدم حتّي لغة الشيطنة، ولم يربط الطائفة بأي شكلٍ من أشكال "الخيانة الوطنية" كما فَعَل النفيسي. بل أكثر من ذلك، لم يُعرَف حتّي في أي وقت على الإطلاق كمؤرخ من مؤرخي "الوصم الطائفي"، بل إنه من المُنادين بفهم المجتمعات المشرقية عبر تنوعها لا عبر أحكام أيديولوجية مسبقة.

فيليب حتّي في جامعة برنستون
ما قام به النفيسي هو اقتباس مجتزأ، منسوب بشكل مريب، بهدف إضفاء شرعية أكاديمية على خطاب سياسي متحيز. ومن يُدرك قواعد البحث والتأريخ، يعلم أن هذا النوع من التلاعب يُعد خيانة للأمانة العلمية. ومن المفارقة أن النفيسي نفسه درس عند فيليب حتّي في الجامعة الأميركية في بيروت، وكان يجلس في قاعات حتّي ليستمع إلى محاضراته حول ضرورة التحرر من الكليشيهات الطائفية، والعودة إلى الوثائق لا إلى الأساطير. فلو كان حتّي حيًّا اليوم، لما مَنَح النفيسي أكثر من صفر في مادة "أخلاقيات البحث الأكاديمي"، وربما كان استدعاه ليَمثُل أمام لجنة تأديبية.
لكن الأخطر من التضليل الأكاديمي هو التوقيت السياسي. النفيسي هو على دراية تامة بأن السويداء، وهي مركز ثقل لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، تمر بمرحلة حرجة، بعدما تعرّضت في الأسابيع الماضية لمجازر موثقة. وفي وقت يجهد فيه أبناء السويداء للدفاع عن كرامتهم في وجه مشروع فرض "الدولة القمعية الجديدة"، يخرج النفيسي ليعيد تدوير خطاب قديم عن "الطابور الخامس الدرزي"؛ وكأن المطلوب هو تحويل الضحية إلى متهم، وتبرير القتل بإعادة إنتاج سرديات العداء الوجودي.
ما لم يُفصِح عنه النفيسي، هو أن دروز فلسطين، مثلهم مثل سائر المكونات الفلسطينية، مرّوا بمراحل متعددة من الانقسام والانخراط في الدولة الإسرائيلية والاصطدام معها على حد سواء. نعم، هناك فئة من الدروز تم تجنيدها في صفوف الجيش الإسرائيلي، لكن هناك أيضًا الآلاف ممن رفضوا الخدمة الإلزامية فكان مصيرهم السجن بسبب مواقفهم، ناهيك عن تاريخ الحركة الوطنية الدرزية في فلسطين منذ مجزرة كفر قاسم، ورفض الخدمة العسكرية، ومشاركة أمير مخول ورافع نصر الدين وأمثالهما في المقاومة السياسية، مما يكشف بوضوح أن المجتمع الدرزي ليس "كتلة واحدة" كما يحاول النفيسي تصويره.
واللافت أكثر، أن البروفيسور فيليب حتّي، خلال استعراضه لتاريخ طائفة الموحدين الدروز في كتابه، أشار إلى الطائفة في 22 موضوعًا مختلفًا، إذ تناول أصول الطائفة، وتطورها، وتموضعها في التاريخ المشرقي، من دون أن يُسقِط عليها أي أحكام دينية، ولا أن يتعرض لها من زاوية طعن في إسلامها أو وطنتيها أو أخلاقياتها. لم يُحَمّلها "وزرًا طائفيًا" ولم ينتقص من مساهماتها، بل حرص على مقاربة الموضوع بمنهجية علمية واضحة. في المقابل، إن من يدّعي اليوم أنه "أستاذ جامعي"، أي الدكتور عبد الله النفيسي، لم يتردد في القفز فوق هذه المنهجية ليبني على فتات جملة واحدة سردية تحريضية كاملة، أسقطها بشكل انتقائي على طائفة دينية عريقة، معروفة بين أهل الكويت، وعلمائها الحقيقيين، بمواقفها الوطنية ودورها في بناء الأوطان، لا تفكيكها.
ما يحتاجه العالم اليوم ليس تكرار دروس التفرقة والتقسيم، بل استخدام لغة تُبرِز الحقيقة وتؤكد عليها، والابتعاد عن الروايات المشوّهة. الأكاديمية ليست ستارًا لتصفية الحسابات السياسية، والتاريخ ليس مساحة للانتقام الأيديولوجي. ومن المؤسف أن من يُفترض بهم أن يكونوا حراسًا للمعرفة، يصرّون على تأدية دور المُحَرّضين.
ولننظر إلى فيليب حتّي، لا كما قرأه النفيسي، بل من خلال كتاباته: شاهدًا على تعددية هذه المنطقة، وعلى ضرورة احترام الاختلاف، لا تصفيته عبر الكلام أو الرصاص.