: آخر تحديث

أعراق قلقة: الحنين لوطن غارق

3
3
3

أعراق قلقة هي سلسلة طروحات تتناول أحوال ومشاكل أعراق كثيرة على كوكبنا عانت وتعاني منذ قرون آثار أوضاع جيوسياسية واجتماعية وثقافية معقدة، بدأناها بالعرق الأكثر قلقاً في التاريخ والأكثر تأثيراً في التاريخ أيضاً، وهو العرق الوحيد الذي ارتبط اسمه بعقيدته، ثم تلوناه بطرح عن الأكراد، العرق الأكثر مظلومية في التاريخ ــ في رأيي ــ، وفي هذا الطرح سنحاول إيجاز تاريخ موغل في القدم للعرق الوحيد الذي كان له كيان ودولة ومملكة راسخة وقوية حكمت وسيطرت وبسطت نفوذها وتمددت شمالاً وجنوباً، لكن عوامل عدة تحالفت عليها قديماً وحديثاً لتضمر وتنقرض وتصبح مجرد تاريخ بعد أن كانت تاريخاً وجغرافيا وحضارة وثقافة. هؤلاء هم سكان بلاد الذهب نوب.

عانى النوبيون أشد المعاناة بسبب هذا الموقع الجغرافي المتميز؛ ضفتي نهر وظهير صحارى شاسع ممتد على جانبيه، وهو ما كان دائماً المطمع الرئيس لسكان البوادي الجدباء شرق الأحمر منذ قرون. ولم يشفع للنوبيين استقبالهم وترحيبهم واندماجهم الطوعي بموجات الهجرات الأولى لعرب شبه الجزيرة من قبائل قحطان وعدنان، لم يشفع لهم ذلك في تغيير نظرة الغزاة الفوقية المتعالية عليهم ونحوهم. ولقد تراكمت التوجسات بدءاً من دخول العرب مصر وحتى اليوم، بالإضافة إلى نمط عنصري تعامل به العرب مع كل السكان الأصليين ــ حتى هؤلاء الذين توحدوا معهم في العقيدة ــ هذه النظرة تركت جروحاً غائرة لا زال أثرها قائماً حتى اليوم، ودليلنا على ما ندعي هو حال العلاقة اليوم بين العرب وسكان كل هذه المناطق التي غزوها: الكرد والنوبيون والأمازيغ والأقباط والدروز والسريان والآشور.

وقد ظلت ذكريات حصار مملكة النوبة المسيحية والاسترقاق والجزية البشرية غصة في قلوب النوبيين ــ ومعاهدة البقط خير دليل ــ ولم يفلح مضي كل هذه القرون في تخفيف طعم مرارتها. وفي شمالها المصري جاءت التهجيرات الأولى لخزان أسوان ثم تعلياته ثم السد العالي لتنشئ لأول مرة منذ آلاف السنين منطقة انفصام عازلة طولها مئات الكيلومترات تقطع التواصل الثقافي والتاريخي والاجتماعي والاقتصادي بين قبائل متحدة في العرق واللغة والثقافة عاشت معاً على ضفاف هذا الشريان آلاف السنين، وصنعت حضارة مزدهرة. صحيح أنه كانت هناك صراعات تنشأ بين القبائل بحكم البيئة، لكن ذلك كان طابعاً عاماً في كل أفريقيا.

ومما شجع على نمو بذرة المؤامرة على النوبة هو ما يشاع عن رفض الدولة المصرية نقل مواقع القرى التي سيغمرها النهر إلى منسوب أعلى كما حدث مع مشروع اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة. هناك من يقول إن مشروع نقل وإنقاذ آثار النوبة كان يتضمن السكان أيضاً، لكنَّ الدولة المصرية فرضت التهجير، مع أن تكاليف مشروع نقل القرى إلى منسوب أعلى كانت أقل بكثير من تكاليف التهجير والتوطين، إلا أنَّ التوجس من تواصل جغرافي صريح ربما يدعم دعوات انفصال مستقبلية؛ هذا التوجس عجل بإغراق وطن أصبح مجرد أثر بعد عين، واقتلع سكانه من بيئتهم وتغيرت ديموغرافيا كل المنطقة التاريخية إلى الأبد. وعاش النوبيون قلقين جنوباً يملؤهم الأسى على وطن غرق في صراعات مزمنة، وشمالاً يملؤهم الأسى على وطن غرق تحت الماء ولم يعد له ذكرى. وبالتقادم ضاعت صورة وطن إلا من ذاكرة من ولدوا فيه، وهم انقرضوا أو كادوا، فقد مضى أكثر من قرن وغرق وطن واندثرت ذكراه ومات من عاشوا فيه ولمسوه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.