هل السياسة بلا أخلاق؟ في العلاقات الدولية، تظل معادلة "المصلحة مقابل الأخلاق" واحدة من أكثر الثنائيات إلحاحًا. فحين يتقدّم السياسي نحو تحقيق ذاته أو تعزيز تحالفاته، يمكن أن يضحّي بشعوب كاملة على مذبح الصفقات. لذا، حين يُطرح سؤال: هل يمكن للسياسة أن تُدار بلا أخلاق؟ سيجد أنه سؤال قديم تتجدّد إجابته مع كل محطة في العلاقات الدولية. لكن حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تجعلنا نرى هذا السؤال في أكثر صوره فجاجة. فمن قمة هلسنكي مع فلاديمير بوتين عام 2018، مرورًا بمواقفه من فلسطين واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل وصفقة القرن، وصولًا إلى قمة ألاسكا الأخيرة (2025)، يبدو أن ترمب جعل من التضحية بالشعوب أداة طبيعية في صفقاته الكبرى.
أولًا: لقاء هلسنكي 2018 مع بوتين: أوكرانيا خارج الحسابات
-
في تموز (يوليو) 2018 اجتمع ترمب وبوتين على انفراد في العاصمة الفنلندية، في لقاء استمر أكثر من ساعتين من دون مشاركة مسؤولين أميركيين أو أوكرانيين.
-
أثار هذا الأمر الغضب الدولي، ليس فقط لغياب الشفافية، بل أيضًا لتجاهل أوكرانيا، التي كانت منذ 2014 تخوض حربًا ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا.
-
تصريحات ترمب التي قلّلت من شأن تقارير استخباراته عن التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية، عمّقت الانطباع بأن ترمب مستعد لاستخدام أوكرانيا كورقة تفاوضية في صفقته مع روسيا، ولو على حساب سيادتها.
ثانيًا: الموقف من القضية الفلسطينية
-
القدس (2017):
-
في كانون الأول (ديسمبر) 2017 أعلن ترمب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها.
-
القرار شكّل خرقًا لقرارات الأمم المتحدة (خصوصًا القرار 478) وضربة للشرعية الدولية التي اعتبرت القدس مدينة محتلة منذ 1967.
-
صفقة القرن (2020):
أطلق ترمب خطة "صفقة القرن" التي تضمنت:
-
تثبيت السيادة الإسرائيلية على المستوطنات في الضفة الغربية.
-
إبقاء القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.
-
رفض حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
-
تقديم وعود بمشاريع اقتصادية في غزة لتحويلها إلى "منطقة تنمية" منزوعة المعنى السياسي.
بحسب تقرير "الجزيرة" (28 كانون الثاني/يناير 2020)، رفضت السلطة الفلسطينية الخطة واعتبرتها تهميشًا لحقوق الشعب الفلسطيني، مما أدى إلى مزيد من العزلة السياسية للفلسطينيين.
النتيجة واحدة: إقصاء الشعب الفلسطيني تمامًا من معادلة تقرير مصيره، كما هُمّش الأوكرانيون في قمة هلسنكي.
ثالثًا: قمة ألاسكا 2025 – استكمال المسار
في قمة ألاسكا الأخيرة، اجتمع ترمب وبوتين مجددًا، وكانت النتائج الأولية:
-
رغم الأجواء الاحتفالية والمراسم الرسمية، خرج اللقاء بلا اتفاق لوقف إطلاق النار في أوكرانيا.
-
ترمب تراجع عن شرط وقف النار المسبق، متبنّيًا خطابًا أقرب إلى موسكو، حيث تحدّث عن "اتفاقية سلام شاملة" بدل وقف فوري للحرب.
النتيجة: موسكو حصلت على مكاسب سياسية ودعائية، بينما بقيت أوكرانيا خارج الحسابات العملية، كما حدث قبل سبع سنوات في هلسنكي.
في سياق افتراضي لهذه القمة، يمكن تصوّر استمرار نهج ترمب في تقديم تنازلات لروسيا على حساب أوكرانيا. واستنادًا إلى نمط هلسنكي، من المحتمل أن يركّز اللقاء على "اتفاقية سلام شاملة" دون التزامات ملموسة بوقف إطلاق النار، مما يعزّز مكاسب موسكو السياسية والدعائية. هذا الافتراض يعكس استمرارية نهج ترمب في تفضيل الصفقات الشخصية على المصالح الإنسانية، كما حدث مع أوكرانيا وفلسطين سابقًا.
بدلًا من ذلك، تحدّث ترمب عن "اتفاقية سلام شاملة" بلغة أقرب إلى موسكو منها إلى كييف. بدا وكأن ألاسكا امتداد طبيعي لهلسنكي: تنازلات ضمنية لموسكو، وتهميش مستمر لأوكرانيا.
مقارنة في السياق السياسي
تشترك هذه المحطات في نمط واضح:
-
التشابه: في الحالتين (هلسنكي – القدس/غزة)، همّش ترمب الطرف الأضعف (أوكرانيا، فلسطين) لصالح الطرف الأقوى (روسيا، إسرائيل).
-
الأداة: الاعتماد على الدبلوماسية الفردية والشخصية، متجاوزًا المؤسسية الأميركية أو الأطر الدولية.
-
النتيجة: إعادة تشكيل السياسة الخارجية الأميركية كصفقة خاصة، تعكس أولوية التحالف مع القوى الإقليمية الكبرى على حساب مبادئ العدالة وحقوق الشعوب.
ومع ذلك، يرى البعض أن ترمب كان يهدف إلى تحقيق استقرار إقليمي من خلال تعزيز العلاقات مع قوى مثل روسيا وإسرائيل. على سبيل المثال، يمكن القول إن صفقة القرن هدفت إلى تقديم حل اقتصادي بديل للفلسطينيين، لكن هذا التبرير يتجاهل رفض الفلسطينيين للخطة وتأثيرها السلبي على آمالهم السياسية.
السياسة الواقعية: المصلحة قبل الأخلاق
ما يجمع هذه المحطات هو أن ترمب لم ينظر إلى السياسة الدولية كمنصة لتحقيق العدالة أو دعم الشعوب، بل كسوق للمساومات والصفقات. هذا السلوك يجد جذوره في "الواقعية السياسية" (Realpolitik) التي ترى أن الدولة – بل أحيانًا الزعيم – يسعى وراء مصالحه، حتى لو تعارضت مع القيم. في نظام دولي "فوضوي" بلا سلطة عليا، تصبح القوة والمصلحة معيار القرار.
لكن في حالة ترمب، تحوّلت هذه الواقعية إلى نزعة فردية، حيث غابت حتى المصلحة القومية الأميركية أمام نزعة الزعيم لتسجيل انتصارات شخصية.
وتُذكّرني مواقف ترمب هذه بوصف السياسي الأميركي الشهير د. هنري كيسنجر، وهو من أساتذة السياسة الواقعية، لترمب بـ"الظاهرة"، وهي كلمة تصف عادة رجل علمٍ واسع المعرفة، وهي صفة يفتقدها ترمب، لكنها أصبحت تمثّل الواقعية السياسية التي قامت عليها سياسة كيسنجر. فعلينا ألا ننسى أن كيسنجر كان وراء أحداث كئيبة مثل القصف "السرّي" وحملة الإبادة الجماعية لكمبوديا في الفترة بين 1969 و1970، والإطاحة بحكومة سلفادور أليندي المنتخبة في تشيلي. ومن هنا، فإن ترمب يمثّل تعبيرًا مختلفًا عن جوهر السياسة الأميركية. ولذا، فإن كيسنجر، وعلى نقيض سياسيين آخرين، كان يرى أنه يجب إعطاء الفرصة لترمب لتنفيذ سياساته.
الشعوب تدفع الثمن
من أوكرانيا إلى فلسطين، ومن هلسنكي إلى ألاسكا، تعيدنا تجربة ترمب إلى الدرس القديم: بينما يُنظّر الأكاديميون للواقعية أو الليبرالية، فإن الواقع يُذكّرنا بأن "الأخلاق في السياسة" قد تكون الاستثناء لا القاعدة، وأن الزعيم حين يضع مصلحته فوق الجميع، لا يتردّد في التضحية بالغالي والرخيص، بل وحتى في التحالف مع الشيطان لتحقيق أهدافه. وهنا تكمن خطورة السياسة حين تتحوّل من أداة لخدمة الشعوب إلى أداة لتصفية الحسابات الشخصية.