مع دخول العالم في الألفية الثالثة بعد الميلاد والتي نكاد أن نطوي الربع الأول منها، لم يظهر رئيس أو زعيم تمكن من خطف الأضواء وصيرورته محورا أساسيا لوسائل الإعلام في شتى أرجاء العالم كما كان الحال مع دونالد ترامب سواء في دورته الرئاسية الأولى أم الثانية التي لا زالت في عامها الأول.
أميركا التي أثارت وتثير اهتمام العالم من مختلف النواحي، في عدوانيتها كما يتم تصويرها أو في تقدمها العلمي والأدبي والفني وحتى في طابعها الاستهلاكي ونموذجها الخاص الذي سوقته وتسوقه بهذا الصدد وجعلت العالم ليس منبهرا بل وحتى مأخوذا بها، أتحفتنا بترامبها الفريد من نوعه والذي حظي بما لم يحظ به أي رئيس أميركي سابق.
هناك من يسعى للإيحاء بأن دونالد ترامب صناعة أميركية وتم تسويقه من قبل الدولة العميقة من أجل إعادة الأضواء التي ابتعدت عن أميركا خلال عهد جو بايدن، ولاسيما إذا ما أعدنا للأذهان الحملات القضائية الشرسة التي تم شنها ضده خلال عهد سلفه والتي كانت معظمها تهدف إلى التشهير به، ولكن، وإن اتفقنا بأن ترامب صناعة أميركية لكنها صناعة تلقائية وليست مقصودة أو تم الإعداد لها سلفا، ذلك إن مجرد النظر إلى طابع الحياة في أميركا وتاريخها المعاصر، نجد إن مجيء نموذج كترامب أمر وارد ولا يمكن اعتباره خارج السياق.
قبل وبعد وأثناء انتخابه، كان ترامب محور اهتمام معظم وسائل الإعلام العالمية وكونه الأكثر خطفا للأضواء والأكثر إثارة للجدل والاختلاف، لكن، هنا ثمة حقيقة لا مناص من الاعتراف بها وهي إن السبب الأساسي لا يعود لشخص ترامب وإنما إلى أميركا ذاتها، أميركا التي لا زالت تقف شامخة كأقوى نظام سياسي واقتصادي وعسكري في العالم ولا زالت هي من تتحكم بزمام القرار الدولي، غير إن الضجة التي أثيرت بسبب ترامب تعود إلى إنه الرجل المناسب لقيادة أميركا على مختلف الأصعدة وهو بمثابة دماء جديدة لشريانها بعد أن قام سلفه بإجهادها.
لقاء بوتين ومن بعده زيلينسكي وزعماء أوروبيين، أظهر ترامب وكأنه مايسترو يفرض نفسه على الجميع وحتى إن بوتين الذي قيل ما قيل من إنه كان الأكثر حظوة في لقاء ألاسكا، لكن مجرد النظر في بريق عينيه وهو يعيش لحظات ذلك اللقاء، توحي وكأنه في حلم لا يكاد أن يصدقه وهو يقف أمام ترامب، والحقيقة إن ترامب وفي قاموسه الخاص لا ينظر إلى بوتين والبلدان الأوروبية بذلك المنظار التقليدي الذي كان معهودا خلال عهود أسلافه، بل إنه قد قام بحركة جديدة تعطي انطباعا بأن أميركا ترامب لا ترى إنها ملزمة بأن تنظر كما ينظر حلفاؤها وإنما تريد من حلفائها أن ينظروا كما تنظر هي، ووفق هذا المنظور، فإن أميركا بإمكانها أن تضم الجميع حلفاء وأعداء تحت جناحيها!
ما يقوم به ترامب حاليا، هو تحرك نوعي من أجل إعادة رسم ملامح الدور والتأثير الأميركي في زمن تجري فيه محاولة لسحب البساط من تحت أقدام أميركا كقطب أساسي في العالم وفرض أقطاب أخرى، ولأن ما يقوم به ترامب يعتمد على أسس ومرتكزات اقتصادية وسياسية وتتجنب غيرها ولاسيما العسكرية منها، فإن ترامب في مسعاه هذا يريد أن يجعل من الطريق الجديد الذي تريد روسيا والصين تدشينه للعالم، طريقا ضيقا ذا اتجاه واحد ولا يتسع للسباق.