قد يبدو الشر كلمة بديهية، نفهمها جميعاً كما يفعل الطفل حين يشير إلى من يسيء ويقول عنه "سيئ". لكن الحقيقة أكثر تعقيداً: الشر ليس وجهاً واحداً، بل طيف من المعاني، تكسوه طبقات كثيفة من الدلالات الدينية والأخلاقية والسياسية والقانونية. إنه مفهوم عصيّ على التجسيم، متعدد الأوجه، يتخفى في وجوه البشر وسلوكياتهم اليومية.
في علم النفس، وُلد مصطلح "الشخصية المظلمة" ليصف أولئك الذين يبحثون عن مكاسب شخصية على حساب غيرهم، حتى ولو كان الثمن إلحاق الضرر أو حرمان الآخرين. هذه الشخصية قد تجد في أقسى صورها: لذة في معاناة الآخر، أو في أشكال أكثر نعومة وخفاء: التلاعب، البرود العاطفي، أو انتهاك المعايير الاجتماعية.
تحت هذا العنوان العريض نجد أسماءً اعتدنا سماعها: السيكوباتية، النرجسية، الميكافيلية، والسادية. التفكير فيها لا يقودنا فقط إلى التساؤل: ما هو الشر؟ بل إلى سؤال أخطر: أيمكن أن يكون هذا "القريب" أو حتى "نحن أنفسنا" أقرب إلى هذه الأوصاف مما نتصور؟
عندما نفكر في الأشرار، يقفز إلى أذهاننا القاتل المتسلسل، السفاحون الذين ملأت قصصهم الصحف والكتب. لكن هل يعني ذلك أن بقيتنا ملائكة؟ الواقع أن الشر ليس حدّين متقابلين، بل مقياس رمادي شاسع، يشارك فيه كل إنسان بدرجات متفاوتة. هناك نقطة سوداء في طرفه، حيث تتجلى أبشع صور الانحطاط، لكن هناك أيضاً مساحات رمادية، حيث نقف جميعاً.
لسنا أمام خيار "أن نكون أو لا نكون"، بل أمام سؤال: "إلى أي مدى نحن قريبون أو بعيدون عن هذه الظلال المظلمة؟". كلنا نحمل شيئاً من النرجسية مثلاً، لكن ذلك لا يجعلنا بالضرورة نرجسيين. إنما يصبح الخطر حقيقياً حين تتجاوز هذه السمات حداً معيناً وتبدأ في افتراس الآخرين.
والحقيقة أن النماذج المتطرفة نادرة نسبياً – ربما 1 بالمئة من البشر – لكن الأخطر هم أولئك الذين يملكون قدراً مرتفعاً من السمات المظلمة، دون أن يصلوا إلى التشخيص السريري. هؤلاء ليسوا بالضرورة قتلة، لكنهم قادرون على تسميم العلاقات، على استنزاف العاطفة، وعلى ترك ندوب غير مرئية في نفوس من يتعاملون معهم.
المؤسسة أو الشركة قد تكون مسرحاً مفضلاً للشخصيات المظلمة. هنا يجد الباحث عن مصالحه الخاصة فرصة لتمزيق الفريق، لنشر الصراعات، ولزرع الشكوك. مثل هذا الشخص قد يدخل بابتسامة آسرّة، وانطباع أولي مدهش، لكنه مع مرور الوقت يكشف قناع التلاعب، الغطرسة، والتقليل من شأن الآخرين. وحينها، تصبح بيئة العمل أرضاً خصبة للانهيار المعنوي.
لهذا دعا خبراء كثر إلى ضرورة تقييم هذه السمات قبل التوظيف، بل وحتى قبل منح مناصب رفيعة، لأن "الشر الناعم" لا يقل خطراً عن العنف المباشر، بل ربما يفوقه.
منذ مطلع الألفية، ظهر ما يسمى بـ "ثالوث الظلام": السيكوباتية، النرجسية، والميكافيلية. لاحقاً أضيفت السادية لتشكّل "رباعية الظلام". كل واحدة من هذه السمات تحمل ملامحها، لكنها تتداخل فيما بينها بشكل يجعل تصنيفها مهمة معقدة، فالسياسي النرجسي قد يُرى أيضاً ميكافيلياً، والقاتل البارد قد يُصنَّف سيكوباتياً وسادياً معاً.
لكن بدلاً من الاكتفاء بالتصنيفات العامة، سعى الباحثون إلى تفكيك هذه السمات إلى عناصرها: الاستبداد، الجشع، القسوة، التلاعب، الغطرسة، الانتقام... ومن هنا وُلدت أدوات جديدة مثل "بطارية تقييم السمات المظلمة" (BERO)، التي تسمح بقياس هذا الطيف بدقة أكبر.
كتب بودلير يوماً أن أعظم خدعة للشيطان هي إقناعنا بأنه غير موجود. ربما لا يمكننا إنكار وجود الشر في أقصى أشكاله، لكننا – في حياتنا اليومية – كثيراً ما نتعامى عن الرمادي. نخشى الاعتراف أن الظلام ليس بعيداً عنا كما نظن، بل يسكن في محيطنا، وربما في دواخلنا.
السؤال إذن ليس: هل نعيش بين شخصيات مظلمة؟ فهذا بات مؤكداً. السؤال الحقيقي هو: كيف نتعامل معها حتى لا تتحكم في مصائرنا وعلاقاتنا وبُنى مجتمعاتنا؟