: آخر تحديث

الأسلحة التي لا تقتل… لكنها تُسكت العقول

1
1
1

في زمنٍ أصبحت فيه الرصاصة مكلفة، والصورة أقوى من الانفجار، ظهرت فئة جديدة من الأسلحة لا تعتمد على الدماء لتثبت فاعليتها، بل على تعطيل الدماغ، وإخماد الإرادة، وتقييد الجسد دون قيدٍ مرئي!

إنها أسلحة لا تقتل، لكنها تسكت العقول… حرفياً ، وُلدت هذه الأسلحة من رحم الخوف، صُممت ليس لقتل الأعداء، بل لترويضهم، لتفكيكهم من الداخل، لتسليط موجات لا تُرى ولا تُشَمّ ولا تُسمع بسهولة، لكنها قادرة على تحويل الإنسان من كائن واعٍ إلى هيكلٍ مشوَّش، مُرتبك، فاقدٍ للتوازن، غير قادر على اتخاذ القرار أو إدراك الخطر. هنا لا تنفجر القذائف، بل تنفجر الأعصاب.

الولايات المتحدة كانت من أوائل من أدركوا أن السيطرة لا تتطلب دائماً القتل. فابتكر الجيش الأمريكي ما يُعرف بـ (نظام الإنكار النشط)  (Active Denial System)، سلاح يستخدم موجات ميكروويف عالية التردد، تلامس الطبقة الخارجية من الجلد وتُحدث إحساساً بالحرق، دون ترك أي جرح. الهدف ليس الإصابة، بل الطرد، ليس القتل، بل الإخضاع. جُرّب هذا السلاح في العراق وأفغانستان، ثم في الولايات المتحدة نفسها لتفريق بعض الحشود. لقد أثبتت التجارب أن مجرد ثانية من التعرّض لهذه الموجة كافية لدفع أقوى المقاتلين للهرب، لا لأنهم جبناء، بل لأن أدمغتهم تُجبرهم على ذلك. إنها استجابة عصبية، لا خيار فيها.

ثم جاءت الحقبة الأخطر، حين بدأ الحديث عن أسلحة لا تُرى ولا تُختبر في ساحات المعارك، بل تُستخدم ضد العقول المستهدفة في عمق المدن، في قلب العواصم الدبلوماسية، داخل البيوت، وربما داخل غرف النوم. متلازمة (هافانا) التي ضربت دبلوماسيين أمريكيين وكنديين في كوبا، ثم في الصين، وأماكن أخرى، فتحت باباً مرعباً حول احتمال استخدام أسلحة إشعاعية عصبية قادرة على اختراق الجدران واستهداف أدمغة بعينها. الأعراض كانت غريبة: دوارٌ مفاجئ، فقدان توازن، صداع لا يُحتمل، طنين في الأذن، اضطراب في النوم، ثم لاحقاً… تشويش دائم في الذاكرة والتركيز. لم يرَ أحد القذيفة، لم يُسجل أي انفجار، ولم يجد الأطباء تفسيراً عضوياً واضحاً. لكن الأثر كان حقيقياً...!

الأصابع وُجّهت إلى تكنولوجيا سرية، ميكروويفية أو فوق صوتية، تصيب الدماغ البشري مباشرة، دون أن تترك خلفها بصمات تقليدية.

لكن السؤال الذي يظل مُعلقاً: هل هذه الأسلحة حقيقية فعلاً؟ أم أنها مجرد هواجس استخباراتية؟ الإجابة المؤلمة هي: نعم، إنها حقيقية. ليس فقط من خلال الأدلة الميدانية، بل من خلال وثائق مسربة وتقارير برلمانية واستخباراتية. الصين طوّرت نماذج لطائرات بدون طيار لا يتجاوز حجمها حجم الذبابة، قادرة على الاقتراب من أي هدف وبثّ موجات فوق صوتية تسبب غثياناً وارتباكاً وصداعاً ، وربما فقداناً مؤقتاً للوعي. روسيا أيضاً أعلنت امتلاكها لتكنولوجيا (الأسلحة النفسية) القادرة على التأثير على الحالة الذهنية للجنود في الجبهات. وإسرائيل، كعادتها، لا تُعلّق، لكنها لا تتأخر في سباق الابتكار الأمني.

وفي الوقت الذي تُنشر فيه تقارير عن أسلحة صوتية تُستخدم في سفارات أو مناطق حيوية لإحداث إرهاق عصبي طويل المدى، يظهر نوع آخر من الأسلحة المصمّمة لشل الإرادة دون قتل، مثل الأسلحة الصوتية بعيدة المدى (LRAD)، التي تُصدر موجات صوتية مركزة تؤلم الأذن والعقل في آنٍ واحد، وتمنع التركيز، وتُفقد الشخص توازنه النفسي، حتى لو كان على بعد مئات الأمتار. لقد استخدمت هذه التكنولوجيا في الموانئ، وفي تفريق بعض المظاهرات، وحتى في الحروب النفسية ضد المسلحين في مناطق معينة.

العالم لم يعد يركّز على القنبلة، بل على التردد. لم يعد السؤال: ما نوع الرصاصة؟ بل: ما نوع الذبذبة؟ كيف نُعطل الخصم دون أن نثير ضجة؟ كيف نكسر الروح دون أن نُحرج أمام الإعلام؟ إنها أسلحة المستقبل التي تُحارب تحت السطح، داخل الدماغ، تُفكك الأعصاب دون ترك دليل. أدوات التحكم العصبي صارت هدفًا لتطويرات واسعة، خاصة بعد اكتشاف تأثيرات معينة للموجات الكهرومغناطيسية على موجات الدماغ، وقدرتها على تبديل الحالة الذهنية، من هادئة إلى مضطربة، ومن مركّزة إلى ضائعة.

الأخطر أن هذه الأسلحة لم تعد حكراً على الدول، بل يمكن تطوير بعضها بأدوات متوفرة تجارياً ، وهو ما يفتح الباب أمام الميليشيات، والعصابات، وربما الأفراد، لاستخدامها في عمليات الاغتيال الصامتة، أو إرهاب الخصوم دون رصاصة واحدة. إن التحدي الأخلاقي هنا يتجاوز الحدود، لأننا أمام جريمة لا تُرى، وضحية لا تصرخ، وسلاح لا يُصوَّر. فكيف تُدين جريمة لا تمتلك دليلًا سوى الصداع والانهيار الذهني؟

الصمت الدولي حول هذه التكنولوجيا ليس دليل عدم وجود، بل دليل خطورة. فكل دولة تعرف أن الحديث العلني عنها قد يُفجّر سباق تسلّح صامت، وقد يُشجّع آخرين على الاستثمار في (أسلحة اللا قتل) التي تُغيّر مصير المعارك دون إراقة قطرة دم. إنها ليست رحمة، بل خنق ناعم. ليست بديلاً أخلاقياً ، بل التفافاً شيطانياً حول فكرة القتل نفسها.

هذه الأسلحة تغيّر طبيعة الإنسان قبل أن تغيّر مصير المعركة. إنها تدفعنا لإعادة التفكير في معنى (الهجوم) و (الدفاع) ، وفي حدود السيادة الشخصية والعصبية والعقلية. فهل يملك الإنسان حق الدفاع عن موجات دماغه؟ عن صوته الذي قد يُستنسخ؟ عن عقله الذي قد يُشوش وهو جالس في غرفة مغلقة؟ إنها أسئلة عصر جديد، لا تحدده القنابل، بل الموجات. ولا تحكمه الجيوش فقط، بل المبرمجون والعلماء والعقول التي تُجيد رسم الحرب داخل الرأس لا على الخريطة.

في النهاية، قد لا يحتاج العدو في المستقبل إلى احتلال أرضك، ولا إسقاط طائرتك، بل يكفيه أن يسقط يقينك، يربك دماغك، ويُفقدك توازنك في أكثر لحظاتك حرجاً. فحين تُصبح العقول ساحة المعركة، تصبح الحقيقة هي أول الضحايا. ومن يفوز ليس من يطلق الرصاصة، بل من يضغط على زرّ ترددٍ لا يُسمع… لكنه يُطفئك.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.