زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى بروكسل الأحد السابع عشر من آب (أغسطس)، تشبهُ لحاق أحد الوالدين بابنهما الوحيد قبل صعوده حافلة المدرسة، لأنه نسي طعام الغداء. رئيس المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين حَشَت حقيبة زيلينسكي بكل ساندويشات الأجوبة الافتراضية التي سيحتاجها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. تمرَّنا على ذلك أمام العالم في مؤتمرهما الصحفي المشترك.
أهمية الحضور الجيَّد للرئيس زيلينسكي أمام ترامب سيحدد نجاة كييف وبروكسل من الغرق في الحسابات الأميركية. الخطوة الأولى كانت اختفاء المظهر الكاكي والظهور ببدلة سوداء. طبعاً، بدون القميص وربطة العُنق. كان ذلك حلاً وسطاً بين هيئة المحارب ووضع المفاوض.
الرئيسان دير لاين وزيلينسكي قدَّما كذلك لوسائل الإعلام صندوقاً من المفرقعات الصحُفية. أغلبُها ركَّز على الضمانات الأمنية، الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وضرورة عودة الحدود الأوكرانية إلى شكلها الدولي المعترف به. شدد الرئيس الأوكراني أيضاً على أهمية لقاءٍ ثلاثي يجمعه مع ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
الرئيس دير لاين اتفقت مع نظيرها الأوكراني أنَّ صيغة "وقف اطلاق النار" أو "صفقة سلام" غير مهمة. عكس الرئيس بوتين الذي أكَّد إن أيَّة صفقة محتملة يجيب أن تؤدي إلى "حلولٍ جذرية". هكذا، يبدو أنَّ بروكسل وكييف منشغلتان بنسف التقارب بين واشنطن وموسكو أكثر من أي شيء آخر.
اتفاقيات مينسك
بروكسل وكييف بحسب المؤتمر الصحفي المشترك بين دير لاين وزيلينسكي، تريدان العودة إلى اتفاقيات مينسك (1 و2) أو "صيغة نورماندي" في 2014 و2015. هذه الاتفاقات جمَّدت الصراع بين موسكو وكييف في منطقة الدونباس جنوب شرقي أوكرانيا. ذلك يعُد انقلاباً جذرياً في موقف الاثنتين، خاصة كييف التي وجدت تمسُّك موسكو وقتها بهذه الاتفاقيات خدعة للاستيلاء الكامل على أوكرانيا.
مؤشر ميدان الصراع في 2025 الذي يشهدُ انحسار حظوظ كييف، غيَّر طبيعة التذوق السياسي لاتفاقيات مينسك عند العاصمتين. لهذا طالبت دير لاين وزيلينسكي بالعودة إلى الحدود الأوكرانية المعترف بها دولياً، والمثبَّتة في اتفاقيات مينسك الأولى (12 بنداً) والثانية (13) بنداً.
الهدف الأساسي لبروكسل وكييف هو منع الانتصارات الروسية في الميدان من التحوَّل إلى مخرجات سياسية. عالم السياسة الأميركي جون ميرشايمر وجد أنَّ أفضل صفقة ممكن الحصول عليها في أوكرانيا هي "سلام مُجمَّد" بحسب ما قاله يوم السبت السادس عشر من آب (أغسطس). عملياً سيكون ذلك مجرَّد وقف لإطلاق النار لكن برنين إعلامي فخم. موسكو جرَّبت ذلك من 2014 إلى فبراير 2022.
الضمانات الأمنية التي طالبت بها بروكسل وكييف، كالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو ضمانات أمنية أميركية تشبه المادة الخامسة في حلف الناتو، جاءت بعد يوم واحد من تسريب أكسيوس (السادس عشر من آب - أغسطس) بأنَّ بروكسل تُفكِّر بالصين كأحد "الضامنين المحتملين لأمن كييف". كُنت قد ذكرت ذلك في مقالٍ سابق بعنوان "العالم بعد يوليو 2025 لن يعود كما كان". نُشِرّ يوم الخامس والعشرين من تموز (يوليو) الماضي.
المفارقة، بأنَّ الرئيس بوتين أشار في قمة ألاسكا، إلى موافقته على حصول كييف لنوعٍ من "الضمانات الأمنية". سابقاً، رفضت موسكو ذلك بشكلٍ قاطع. ولكن ما شكل هذا الضمان إذا اعتبرنا بأن اتفاقيات مينسك هي الأساس لأيَّة اتفاقات قادمة؟
إصلاح الدستور الأوكراني
هناك بندان وردا في اتفاقيات مينسك الثانية عام 2015. الأول، أقرَّ بضرورة حدوث "حوار حول الحكم الذاتي المؤقت لدونيتسك و لوغانيسك بموجب القانون الأوكراني والاعتراف بوضعها الخاص من قبل البرلمان". أمّا الثاني فذهب إلى أهمية "الإصلاح الدستوري في أوكرانيا متضمناً اللامركزية مع ذكر خاص لـ دونيتسك ولوغانسك".
الأرجح أنَّ البند الأخير سيكون المشرط الدقيق لتفصيل نوعين من الضمانات. الأولى تتعلَّق بإبقاء منطقة الدونباس ضمن الرقعة الجغرافية لأوكرانيا لكن بوضع مختلف، ربما قد يكون كونفدرالياً مثلاً. الثاني هو موافقة بروكسل على الاعتراف بإقليم ترانسنيستريا المنفصل عن رومانيا، وابخازيا وأوسيتيا المنفصلتان عن جورجيا. الرئيس بوتين أشار إلى إنه طرح كثيراً من الأمور بشكلٍ "هادئ وواضح" تُجسِّد جميعها صورة الحل الجذري بحسب العقلية الروسية في قمة ألاسكا. هو يريد وباختصار أن ينقل الاتفاق الشفوي بين ميخائيل غورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي مع واشنطن والناتو بعدم "التوجه شرقاً" نحو المجال الحيوي لروسيا، بعد سقوط جدار برلين، إلى وثيقة مدوَّنة.
نيكيتا خروتشوف رئيس الاتحاد السوفييتي الأسبق وصاحب أشهر حذاء سياسي في تاريخ القرن العشرين – ضرب به منصة خطابه في الأمم المتحدة عام 1960 – طلب انضمام السوفييت إلى الناتو عام 1954 لكن رُفِضَ الطلب. بعد 46 عاماً – عام 2000 - كرر الرئيس بوتين طلب انضمام روسيا الاتحادية هذه المرَّة أمام الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي تقبَّل الفكرة لثواني ثم رفضها.
بوتين يريد الانضمام إلى العائلة الأوروبية. يعلمُ أنَّ "الحل الجذري" سيُرفض على الأرجح بنسبةٍ كبيرة جداً، لكنه سيؤكد للشعب الروسي وللعالم بأنَّ روسيا الاتحادية أوراسية؛ أي لا أوروبية ولا آسيوية. المؤكَّد أن ذلك يستحق التفكير فهو يأتي بعد لقاءه بخمسة من الرؤساء الأميركيين 46 مرَّة، بدءاً من كلينتون ووصولاً إلى ترامب.