في عالم السياسة، هناك ظاهرة باتت تتكرّر حتى صارت كأنها طقس مقدّس بعد كل حرب أو مواجهة عسكرية يخوضها محور الأنظمة الديكتاتورية وأذرعه الإرهابية في المنطقة، وهي ظاهرة صناعة النصر الوهمي في قلب الهزيمة، وتحويل المأساة إلى كرنفال دعائي يوزّع الألقاب والبطولات على من خرج مُدمّىً ومهزوماً.
ومن هنا فلا يمكن قراءة تصريحات القيادة الإيرانية الأخيرة عن إمجاد عظيمة و قوة حقيقية كشفتها الحرب ضد دولة إسرائيل إلا في هذا السياق، حيث يصبح الخطاب أداة لتغييب الوعي الجمعي وتثبيت رواية بديلة تتناقض مع الواقع.
بلا شك هذه ليست المرة الأولى التي نسمع فيها هذا النشيد المتكرر، فالمعادلة نفسها انطلقت منذ عقود، الهزيمة تصاغ على شكل بطولة، والفشل يقدّم بوصفه إنجازاً استراتيجياً. واللافت أنّ هذا النمط لا يقتصر على إيران، بل يتسع ليشمل أذرعها كحزب الله والحشد الشعبي في العراق وحركة حماس في غزة. فبعد كل حرب مدمرة تخلف آلاف القتلى ومئات آلاف المشردين، يخرج قادتهم بخطاب مشبع بالغرور، يحاول الإيحاء أن ما حصل كان انتصاراً تاريخياً وأنّ العدو لم يفهم بعد حجم قوتنا، بينما الأرض تشهد على العكس، خراب في البنى التحتية، دمار اجتماعي، وانكسار سياسي.
وفي المقابل، إذا نظرنا إلى تجربة دولة إسرائيل مع الحروب، نجد فارقاً حضارياً صارخاً. فإسرائيل التي خاضت حروباً قاسية منذ نشأتها، عرفت معنى الهزيمة وأدركت مرارتها، لكنها لم تهرب منها، بل حوّلتها إلى مختبر للتعلم وإعادة بناء الجيش والعقيدة الأمنية. كل هزيمة كانت درساً مدروساً، وكل حرب كانت بداية لحرب تالية أكثر تنظيماً واحترافية. في حين أنّ دول الشرق الأوسط التي ورثت الدكتاتورية كابر عن كابر، لم تعر لمفهوم الاعتراف بالهزيمة أي أهمية، بل اعتبرت الاعتراف نقطة ضعف تمس الكرامة في عقولهم المشوّهة، ورفعت بدلاً منه رايات النصر الإلهي والمقدّس، وصنعت سرديات زائفة تُعلَن مقدمة لا تنازل عنها، بينما الشعوب تدفع الثمن، والعدو – الذي يصورونه كمهزوم – يتقدم بخطوات مدروسة نحو التفوق.
والحقيقة ان هذا الفارق العقلي هو ما صنع الفارق في النتائج، عقلية مؤسسية براغماتية في إسرائيل تعترف وتتعلم، مقابل عقلية متخلفة ومريضة في محيط عربي وإقليمي يختبئ خلف الشعارات، لا يرى في النقد والمراجعة إلا تهديداً لسلطته. إنّ هذا النمط من التفكير هو الذي جلب للشرق الأوسط المآسي والدمار، وفتح الباب أمام أجيال كاملة تقتات على خطاب الكذب والتضليل. بل الأخطر أنّ هذه المدرسة في الإنكار أصبحت مرجعاً للتنظيمات الإرهابية نفسها، التي تبنّت أسلوب الانتصار الوهمي في التعامل مع الشعوب المغيبة، حتى صار هذا السلوك قاعدة ذهبية لديهم في كل مواجهة.
إنها سياسة متعمدة لإطعام القطيع، فالأنظمة الأيديولوجية تدرك أنّ الاعتراف بالهزيمة يعني انهيار جدار الشرعية الوحيد الذي تستند إليه أمام جمهورها، لذا تعمد إلى ضخّ خطاب يكرّس صورة الانتصار الدائم. هذه الأيديولوجيا تقوم على ثلاث أدوات رئيسية، أولها إلغاء الواقع الموضوعي واستبداله برواية مصطنعة؛ وثانيها توظيف المشاعر الجمعية كالخوف والاعتزاز القومي أو الديني لتحويل الانكسار إلى فخر؛ وثالثها إعادة إنتاج العدو بوصفه جباناً مهزوماً مهما كان حجم تفوقه الميداني.
في حالة إيران وحلفائها، يصبح الإعلام الرسمي والفضائي ومنصات التواصل مصانع متواصلة لهذا الوهم، تُبث الصور والمقاطع التي تخدم هذه الأسطورة، ويُمنع الحديث عن الخسائر أو الفشل السياسي، وما يثير السخرية أنّ نفس الشخصيات التي ترفع راية الانتصار هي من تهرّب عائلاتها إلى الدول الإقليمية واوربا وتعيش في أبراج محصنة بعيداً عن المعركة التي يزجّون فيها الآخرين.
يبدو المشهد وكأننا أمام اقتصاد سياسي للهزيمة؛ فكلما كانت الخسائر أفدح، كلما ارتفع منسوب البروباغاندا، كل صاروخ يسقط، وكل حيّ ينهار، يُحوَّل إلى مادة لمزاد الشرف الكاذب والكرامة المفقودة، وعليه تُصنع بطولات وهمية على حساب شعوب مسحوقة، وتُرفع شعارات المقاومة التي صارت مجرد واجهة لمشروع تسلطي يخدم بقاء الأنظمة الفاسدة والديكتاتورية أكثر مما يخدم أي قضية عادلة، وهكذا يظل المواطن المغلوب على أمره أسير سردية لا علاقة لها بالواقع.
بلا شك في الشرق الأوسط، عندما تكون الحقيقة قاسية ولا يمكن تبريرها، يصبح اختلاق وهم جماعي ضرورة سياسية. فبإمكان الهزيمة أن تُحوَّل إلى حدث بطولي عبر السيطرة الكاملة على المعلومات ومنع أي صوت مستقل من قول الحقيقة.
والنتيجة أن هذه البروباغاندا تصنع فجوة معرفية هائلة بين ما يحدث فعلياً وبين ما يظن المواطن أنه يحدث، حيث أن هذه الفجوة تولّد مع الوقت حالة إنكار مرضي، تجعل الشعوب أسيرة أكاذيب السلطة، عاجزة عن مساءلتها أو محاسبتها. وهنا يتكامل دور الأنظمة الاستبدادية مع أذرعها الإرهابية، فالحرب التي كان يروج لها أن تكون وسيلة لتحقيق الأمن أو كما يدعى انه استعادة الأرض التي أقيمت لها مجالس العزاء والمظلومية، تصبح وسيلة لضمان بقاء النظام وقادته في السلطة، لأنّ أي توقف للحرب يعني بداية مواجهة مع الحقيقة. وهكذا يبقى الشرق الأوسط رهينة أوهام من يحكمونه، تُرفع فيه رايات النصر فيما الخراب يبتلع المدن، ولن تخرج شعوبه من هذا الجحيم إلا يوم يُسقطون سادة الوهم ويكسرون أسطورة الانتصار الدائم التي لم تخلّف سوى الهزيمة الدائمة.