ليس من النادر أن يقوم الدكتاتوريون والمستبدون والأوتوقراطيون بزيارة مجرمي الحرب للتحدث أمامهم سواء بسبب خضوعهم الفعلي و/أو انتهازيتهم. لكن العكس مأساة بكل معنى الكلمة: عندما يتيح "زعيم" العالم الحر، دونالد ترامب، لمجرم حرب معزول إلى حد كبير مثل فلاديمير بوتين، منبراً، ويمنحه إيماء المساواة والتكافؤ.
لقد كان لقاء آلاسكا فصلاً جديداً من "انتصار رمزي" آخر لفلاديمير بوتين أمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
فلنعد قليلاً إلى الوراء.
بعد احتلال شبه جزيرة القرم، وصف الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما روسيا بأنها "قوة إقليمية". إذ قال أوباما في قمة الأمن النووي التي عقدت في لاهاي بهولندا إنَّ هذا البلد يهدد جيرانه المباشرين. لكن سلوك موسكو لا ينبع "من القوة، بل من الضعف". غير أن موقف ترامب كان بالضبط على عكس ذلك حيث أشاد خلال الحملة الانتخابية لعام 2016 بالفعل ببوتين باعتباره "زعيمًا قويًا" بل والأنكى من ذلك قال المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية حينها إنَّ الروسي "أقوى" من الرئيس الأميركي أوباما.
لقد ذهب ترامب أبعد من ذلك خاصة في لقاء القمة الأولى عند ظهوره في هلسنكي جنباً إلى جنب مع بوتين في عام 2018: في ذلك الوقت، دافع الرئيس الأميركي عن رئيس الكرملين ضد النتائج التي توصل إليها أفراد أجهزته السرية (أي أجهزة الاستخبارات الأميركية) بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية لعام 2016. وقد فاجأ ترامب الجميع عندما قال مدعياً براءة بوتين: "يقول الرئيس بوتين إنها ليست روسيا." وهذا لم يحدث قط أن يقوم رئيس بتكذيب أجهزة بلاده أمام الخصوم.
وقف بوتين في تلك اللحظات مبتسماً!
الرئيس الروسي ذو المظهر الحزين غالباً ولكن بنظرة ثاقبة دائماً من الصعب التكهن بما يدور في داخله. لكن بعث رسالة لا لبس فيها بابتسامته. رسالة واضحة إلى ترامب يمكن تفسيرها: "أنا لا أشارك في أي شيء. إذا فتحت ما يدور في ذهنك، فهذا الشيء يعود إليك، وسأتلقاه وأفهم فحواه. لكنك لا تستطيع أن تقرأ أي شيء بداخلي".
فهذا الشكل من التمثيل والكفاءة البلاغية والإيماءات توضح التسلسل الهرمي. والمراقبون يعرفون من خلاله من يتحكم في من.
فقد كان لقاء آلاسكا أصعب وأخطر بكثير في مدلولاته الرمزية. لا أعتقد أنه قد حدث في التاريخ أن يصفق رئيس أقوى دولة في العالم لدى استقباله رئيساً يغزو دولة من جيرانه بتصفيق حار. لندع الاستقبال على السجادة الحمراء جانباً. ولكن لم يحدث أبداً أن يبدأ الضيف بدلاً من المضيف بالشروع بتقديم تصريحاته في المؤتمر الصحفي وكأنه هو صاحب البيت. والأدهى من ذلك أن ترامب قد سمح لبوتين بنشر الدعاية الروسية السامة لمدة ثماني دقائق في المؤتمر الصحفي، من دون أي رد عليها خلال تصريحاته التي لم تدم أكثر من أربع دقائق. ولا شك في أن بوتين يرى ذلك بمثابة تشجيع له في غزواته المقبلة.
لقد حقق بوتين نجاحاً باهراً لأنه في النهاية، لم يتبق شيء من مطالب الرئيس الأميركي التي سبقت القمة. لا وقف فورياً لإطلاق النار ولا رسوم جمركية عقابية جديدة ولا عقوبات إضافية ولا أي أمور غيرها. لقد اشتهر بوتين بتنظيم اجتماعات عديمة الجدوى بشكل متكرر وذاك يشكل، كما هو معروف لدى المراقبين، جزءاً من استراتيجياته، لكن هذه المرة نجح ببراعة، وذلك باستغلال القمة وبنجاح لا غبار عليه. إذ استطاع تجنب كل ما تم التهديد به ضده. وقد حقق هدفه في تجنب وتفريغ كل "التهديدات" الترامبية. وكأن ملف ستيل المربك الذي يفضح ارتباطات ترامب بروسيا يظهر الآن عواقبه الخطرة والفعلية على الرئيس الأميركي فيما يتعلق بقابليته ووقوعه الفعلي في الابتزاز الروسي.
ما رأيناه في أنكوراج بآلاسكا كان أدنى مستوى وصلت إليه الدبلوماسية الأميركية. إذا كان هناك من يُلام في كل هذا السقوط، ليس ترامب، وإنما الحزب الجمهوري الذي أتى به رئيساً.