: آخر تحديث

ديمقراطيات بائسة

2
2
1

 

بعد تجارب مريرة عاشتها شعوبنا في استنساخ الديمقراطية الغربية على النمط الأميركي والبريطاني، بات واضحاً أن تلك النماذج لم تنجح في بيئتنا الاجتماعية والسياسية، فهي أنظمة نشأت في سياقات تاريخية وثقافية مختلفة، بينما واقعنا ما يزال محكوماً ببنية قبلية، وموروثات دينية، وأعراف اجتماعية تفرض منطقها على السلوك السياسي اليومي، والنتيجة أن الديمقراطية عندنا تحولت إلى صراع غوغائي، تُدار فيه السلطة على يد جهلة وأولاد شوارع ونكرات، وجدوا في صناديق الاقتراع وسيلةً للهيمنة على القرار والحكم، لا أداةً...

إنَّ الحاجة اليوم ملحّة للبحث عن نموذج حكم يتناسب مع سايكولوجية مجتمعاتنا وتركيبتها، فبدل الانبهار الأعمى بديمقراطيات لا تصلح لواقعنا، علينا أن نفكر بنموذج يستند إلى عقلائنا وحكمائنا، حيث يكون مجلس الشورى هو الإطار الجامع الذي يمثل القوى الاجتماعية والمرجعيات الفكرية والرموز الوطنية. هذا المجلس لا يقوم على المحاصصة أو الغلبة العددية، بل على الكفاءة والخبرة والحكمة، ليكون بمثابة العقل الجماعي الذي يوجّه الدولة ويوازن بين المكونات.

غير أن هذا الخيار لا يُقصد به أن يكون نظاماً دائماً، بل صيغة انتقالية تمتد لعقد من الزمن على الأقل، ففي هذه المرحلة، يُمنح الحكماء والنخب فرصة لإحداث تغيير جذري في مناهج التربية والتعليم، وإعادة صياغة وعي الأجيال القادمة على أسس أكثر عقلانية وانفتاحاً، بعيداً عن العصبية القبلية والمناطقية والطائفية.

إنها فترة ضرورية لتحجيم نفوذ العقليات التقليدية التي ما تزال تحكم السلوك السياسي والاجتماعي، ولبناء مفهوم جامع للمواطنة الحقة التي تضع الولاء للوطن فوق كل اعتبار.

وفي قلب هذا النموذج يقف رئيس حكيم، واسع الصلاحيات، لكنه ملتزم بالقيم العليا للأمة، بعيداً عن منطق الزعامة الفردية المستبدة أو الفوضى الانتخابية. رئيس يمتلك الشرعية المستمدة من ثقة مجلس الشورى ومن الإجماع الشعبي، لا من صفقات انتخابية فاسدة أو تزوير صناديق. هكذا يتحقق التوازن بين القيادة الفردية القادرة على الحسم، والرقابة الجماعية التي تمثل ضمير الأمة، في انسجام مع أعرافنا الاجتماعية والدينية.

إنَّ هذه المرحلة الانتقالية ليست رفضاً للديمقراطية أو إنكاراً لها، بل تمهيداً لتطبيقها بشكل سليم، فالديمقراطية لا يمكن أن تُبنى فوق رمال رخوة أو مجتمعات لم تتحرر بعد من أثقال القبلية والجهوية. إنها ثمرة تحتاج تربة صالحة، والتربة عندنا لا بد أن تُهيأ عبر إصلاح التعليم، وترسيخ المواطنة، وإعلاء شأن القانون، وإشاعة ثقافة المشاركة بدل الإقصاء. بعد عقد أو أكثر من هذه الصياغة الجديدة، سيكون المجتمع قد بلغ درجة من النضج تسمح له بالدخول إلى حقبة ديمقراطية حقيقية، تقوم على التنافس الشريف لا على الفوضى، وعلى الحقوق والواجبات لا على المصالح الضيقة.

هذا الطرح، إذن، ليس قطيعة مع العالم ولا عودة إلى الوراء، بل محاولة واعية لصياغة عقد اجتماعي جديد، يمنح مجتمعاتنا فرصة للانتقال من الفوضى إلى الاستقرار، ومن الاستنساخ إلى الابتكار. فالتاريخ يعلمنا أن الأمم الناجحة هي التي بنت أنظمتها السياسية على أسس واقعية متجذرة في ثقافتها وظروفها، لا على تقليد أعمى لتجارب الآخرين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.