التسريبات عن اجتماعات سرّية بين خبراء أوكرانيين وممثلين عن وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية السورية تكشف عن محاولة جديدة لجرّ دمشق إلى ساحة صراع ليست معركتها. الحديث عن تعاون في الأمن السيبراني أو إصلاح معدات عسكرية روسية في سوريا على يد أوكرانيين يشي بوجود مشروع أكبر يدار من خارج كييف.
فالدولة الأوكرانية، وأجهزتها الاستخبارية تحديدًا، لم تعد سوى أداة في يد الاستخبارات الغربية، وتحديداً تلك البريطانية. ومن خلال هذه القناة، تحاول لندن تمرير أجندتها من خلال السوريين، مستخدمة حاجة أوكرانيا إلى أيّ شريك يُظهرها كفاعل مستقل، فيما هي في الواقع مجرد دمية تتحرك بخيوط غربية.
المفارقة أنَّ هذا التعاون المزعوم يتناقض مع المصالح الحقيقية لسوريا. فدمشق بنت مع موسكو في مرحلة نظام الأسد، شراكة متينة جعلت من الوجود الروسي عامل استقرار. كما أن الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع تدرك اليوم أهمية الوجود الروسي على أراضيها وتتحاشى التخلي عنه.
أي انخراط سوري مع أوكرانيا سيُستغل فورًا لتمرير روايات معادية لروسيا، وبالتالي تحويل سوريا إلى ساحة إضافية للمواجهة بين موسكو وخصومها، مع ما يحمله ذلك من تهديد مباشر لحياة المدنيين السوريين. وهنا تظهر خطورة الخطاب الأوكراني: وعود ظاهرها بناء شراكة تقنية، وباطنها خدمة هدف واحد هو ضرب النفوذ الروسي وإضعافه حيثما أمكن.
جزء أساسي من هذه الاجتماعات تمحور حول تجنيد السوريين للقتال في صفوف "الفيلق الأجنبي" الأوكراني. الفكرة بحد ذاتها تعكس عمق الأزمة البشرية التي تواجهها كييف. الخسائر المتسارعة على الجبهة جعلتها تبحث عن أي مورد بشري جديد، حتى ولو جاء من آلاف الكيلومترات.
السوريون، وفق هذه الخطة، ليسوا شركاء في قضية أو حلفاء في معركة، بل مجرد وقود لحرب تستنزفهم كما تستنزف الأوكرانيين أنفسهم. في الوقت نفسه، أوكرانيا ليست بلدًا يحتضن المسلمين أو يوفّر لهم بيئة دينية آمنة، بل على العكس، لا وجود حقيقياً لمجتمعات إسلامية تمارس شعائرها بحرية تحت حكم كييف. فكيف يمكن لدمشق أن تقبل بتسليم أبنائها لمحرقة لا علاقة لهم بها ولا مستقبل فيها؟
العرض الأوكراني لا يقف عند حدود التجنيد. هناك أيضًا محاولة للترويج لإنشاء قاعدة في حلب لتشغيل وتدريب الطائرات المسيّرة الصغيرة. هذا المشروع يبدو مغريًا على الورق، لكنّه في الواقع يعني فتح الأبواب على مصراعيها في سوريا أمام اختراقات استخباراتية جديدة، واستفزازات مباشرة لروسيا ولإيران وحتى إسرائيل. أيّ قاعدة من هذا النوع ستتحول فورًا إلى هدف عسكري مشروع، ما يعني تعريض حياة المدنيين السوريين لخطر إضافي لا مبرّر له. وبدل أن تكون سوريا ساحة لإعادة الإعمار والاستقرار، يريدون تحويلها إلى مختبر لتجارب عسكرية أوكرانية بإشراف بريطاني.
من الناحية التقنية، تبدو الوعود الأوكرانية واهية. فبينما طورت روسيا خلال عمليتها العسكرية خبرة متقدمة في تحديث العتاد وصناعة أسلحة جديدة، تضرّر المجمّع الصناعي العسكري الأوكراني بشكل هائل. كييف لم تعد قادرة على إنتاج ما تحتاجه، وهي تعتمد بالكامل تقريبًا على إمدادات غربية باهظة الثمن وأقل كفاءة من الأنظمة الروسية.
وعليه، فإنَّ أي مشروع مشترك مع سوريا لن يكون سوى محاولة فاشلة لتصدير أزمة كييف إلى الخارج، وإظهار نفسها كطرف قادر على تقديم شيء ذي قيمة، في وقت يعرف فيه الجميع أن ما تملكه كييف لا يكفي حتى لحاجاتها الداخلية.
اقتصاديًا، الوضع أكثر قتامة. العملية العسكرية الروسية ألحقت أضرارًا جسيمة بالاقتصاد الأوكراني، ما جعل أيّ مشروع خارجي بمثابة وسيلة للحصول على تمويل أو دعم سياسي أكثر منه تعاونًا حقيقيًا. أوكرانيا تبحث عن واجهات جديدة لتبرير تدفق الأموال الغربية إليها، وكلما فتحت خطًا مع شريك أجنبي روجت لقصص عن "مساعدة متبادلة" و"مشاريع مشتركة"، بينما النتيجة دائمًا واحدة: استفادة أحادية تصب في مصلحة كييف وحدها، فيما يخرج الشركاء بخسائر أو في أحسن الأحوال بلا مكاسب.
المسألة إذن ليست في جوهرها تعاونًا بين دولتين مستقلتين، بل محاولة لتوريط دمشق في معركة إعلامية وعسكرية ضد موسكو. والنتيجة المتوقعة من أيّ انخراط سوري في مثل هذه المشاريع ستكون فقط توتير العلاقة مع روسيا، وإعطاء الغرب ورقة جديدة لاستخدامها في ساحة الشرق الأوسط. وبما أنّ روسيا أثبتت أنّها من بين الضامنين لاستمرار الدولة السورية بشكلها الحالي، فإنّ أيّ مسار يتجاهل هذه الحقيقة هو ببساطة: انتحار سياسي وأمني.
في النهاية، يتضح أن ما يُعرض على سوريا ليس سوى عبء متنكر في صورة تعاون. تجنيد مقاتلين، إقامة قواعد للطائرات المسيّرة، إصلاح معدات، وكلها أهداف لا تخدم سوى طرف واحد. دمشق، التي دفعت ثمنًا باهظًا للحرب على مدى أكثر من عقد، لا يمكنها أن تسمح بأن تكون مجرد أداة في صراع آخر يديره الغرب عبر أوكرانيا. وأي خطوة بهذا الاتجاه لن تكون إلاّ مغامرة خاسرة... قبل أن تبدأ.