عبدالرحمن الطريري
علق الاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس المحاضر في جامعة كولومبيا، خلال جلسة حوارية في منتدى أثينا للديموقراطية عام 2022، على الدول التي تتسق سياساتها مع سرديتها مثل روسيا، وعرج على تلكم التي تعاني من ازدواجية القيم وذكر مثالاً لذلك بريطانيا في القرن التاسع عشر قائلاً: «يمكنك أن تكون ديمقراطياً في الداخل ومستعمراً بلا رحمة في الخارج».
وعن هذا المنهج يذهب بعض الأكاديميين إلى أنه يعبر عن أزمة بين هويتين، وهذا ما عبر عنه أستاذ القانون في جامعة تل أبيب، إشاحار روزن-تسفي، حيث بدأ محاضرته التي ألقاها في جامعة هارفارد قبل شهرين بعبارة «إسرائيل دولة يهودية، إسرائيل دولة ديموقراطية» مما يخلق في نظره صراعاً داخلياً، ويرجح ازدواجية التطبيق السياسي داخلياً وخارجياً، وهو حديث قديم عن الأنظمة الثيوقراطية وأزمات الأقليات.
وما يحدث اليوم في غزة يذهب أبعد من ذلك بكثير، خاصة بعد الإعلان عن عملية (عربات جدعون٢) وما سبقها وصاحبها من استخدام ممنهج للجوع كسلاح، ومن عمليات توسع في المستوطنات في الضفة الغربية، ضمن المساعي الحثيثة لتأبين حل الدولتين، على نحو تجاوز النقاش حول القانون الدولي الإنساني أو القانون في زمن الحرب.
حتى إن الأمم المتحدة أعلنت أن غزة في حالة مجاعة، وهو ما وصف كإعلان تاريخي، حيث إنها خامس مرة يطلق هذا الوصف في التاريخ. وقد أضاف المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك الجمعة أن «تجويع الناس لأغراض عسكرية يعد جريمة حرب»، وإن كان ذلك يمثّل ضغطاً إضافياً على إسرائيل إلا أنه لا يتوقع أن يمثل رادعاً لنتنياهو، كما لم يكن قرار محكمة العدل الدولية نوفمبر من العام الماضي رادعاً، حيث أصدرت المحكمة مذكرة توقيف بحقه بتهمه جرائم حرب.
بطبيعة الحال لا يتوقع تغير كبير من واشنطن من موقفها الداعم أو الصامت عن إسرائيل وينطبق ذلك على الحزبين، ما عدا نزراً يسيراً لا تتجاوز تصريحاتهم دخول المساعدات والمواضيع الإنسانية عامة، وبطبيعة الحال في إسرائيل تشير الاستطلاعات إلى شبة اتفاق في الهدف النهائي، واختلاف حول الطريقة لا أكثر.
لكن الأيام الأخيرة شهدت تغييرات على مستوى دول مهمة مثل أستراليا وداخل أوروبا، حيث تم تراشق بين رئيسي الوزراء الإسرائيلي والأسترالي بعد إعلان الأخير نية بلاده الاعتراف بدولة فلسطين، فهاجمه نتنياهو متهماً إياه بعدم الوفاء ليهود إسرائيل، مذكراً بموقفه خلال مشاركته (غير المرحب بها من فرنسا آنذاك) في مسيرة التضامن مع ضحايا مجلة تشاري ايبدو، حين حث يهود فرنسا للهجرة إلى إسرائيل، حتى إن الرئيس السابق هولاند غادر الكنيس قبل كلمة نتنياهو.
واليوم تعيش أوروبا كما أستراليا أزمة قيم ومخاض أولويات، فالاعتراف بفلسطين مهم معنوياً، لكن الخطوات الاقتصادية والقيود على السلاح هي ما ستمثل ضغطاً حقيقياً على تل أبيب، ولعل استقالة كاسبار فيلدكامب، نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية هولندا الجمعة الماضية، والوزراء الثمانية الذين تلوه، بعد فشلهم في تمرير بعض الإجراءات ضد إسرائيل، دلالة على الصراع الأوروبي الداخلي.
هذا الصراع الأوروبي يحكمه من جهة المصالح والضغوط الانتخابية، ويحده من جهة أخرى القيم الإنسانية التي تكثر المواد التي تسطرها بين قوانين الاتحاد الأوروبي والقوانين المحلية للدول، لتبقى الدول، خاصةً المصدِّرة للسلاح مثل ألمانيا وإيطاليا بيد خيار التماهي مع قيامها، أو أن ينطبق عليها وصف المفكر الألماني إرنست فراكل «الدولة المزدوجة» «Dual state model».