: آخر تحديث

غزة… جثث على مذبح الأيديولوجيا

2
1
2

عندما ننظر بتمعن فيما سمي لدينا بقضية الشرق الاوسط، سنجد الحقيقة التي اخفيت عن الجميع، في انها لم تكن أزمة فلسطين يومًا أزمة نقص في الفرص السياسية بقدر ما كانت أزمة سوء تقدير وغياب قرار تاريخي شجاع. عقود مضت كان بالإمكان خلالها الوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنبًا إلى جنب مع دولة إسرائيل، وتنسج معها واقعًا اقتصاديًا مزدهرًا يُعيد بناء الإنسان والأرض بدل هدر الدماء والأحلام. لكن التبعية الذهنية والسياسية لقوى إقليمية عبثت بالقضية وبمصير الناس جعلت المشروع الوطني الفلسطيني يتآكل حتى تحوّل إلى حالة من الشتات الفكري والسياسي؛ لا يعرف معها الفلسطيني اليوم أين يضع قدمه، ولا من يمثل مستقبله، ولا إلى أي جهة يسند ظهره.

وما يزيد المفارقة فجاجة أن الفلسطينيين أنفسهم، بعيدًا عن ضوضاء الشعارات، باتوا جزءًا أساسياً من الاقتصاد الإسرائيلي. عشرات الآلاف من الفلسطينيين يدخلون يوميًا إلى داخل إسرائيل للعمل في البناء، والبنية التحتية، وشق الطرق، والزراعة، والصناعات الخفيفة، والمستشفيات، والخدمات اللوجستية، والمخازن وسلاسل التوريد. هؤلاء لا يعملون من باب الهزيمة أو التنازل، بل من باب واقع اقتصادي شديد الوضوح ومن باب مصالحهم الخاصة، حيث يجدون في العمل لدى الاسرائيليين أجر أعلى، رعاية صحية متقدمة، واستقرار معيشي لأكثر من نصف مليون فرد ضمن أسرهم.

من وجهة نظري، هذه ليست خيانة، بل هي اعتراف صامت بأن الاقتصاد سبق السياسة، وأن الحياة اليومية ومصالحهم سبقت الخطابات الثورية، وأن الشعارات التي لا تُطعم طفلًا ولا تُداوي مريضًا، ولا توفر سقفًا، أصبحت أقل قيمة من لقمة تكفل الكرامة. وللمفارقة، في الوقت الذي يطالب فيه بعض القادة الفلسطينيين الجماهير بالصمود حتى الموت، يخرج آلاف الفلسطينيين ليبنوا وحدات سكنية داخل دولة إسرائيل التي يقال إنهم يريدون القضاء عليها، ويعملون في مصانعها ومزارعها وطرقها وشبكات خدماتها.

وفي مقابل هذا الواقع، يقف الخطاب الفلسطيني التقليدي متحجرًا، يكرر ذات الشعارات التي استهلكها الزمن، ويحمّل العالم العربي ـــ والخليج تحديدًا ـــ مسؤولية تمويل لا ينتهي، دون مراجعة أو تفكير في تقديم مقابل سياسي أو اقتصادي يفتح نافذة أمل. لكن لماذا يُطلب دائمًا من الخليجي أن يدفع؟ ولماذا يُفترض أن تبقى خزائن النفط جارية دون مساءلة أو محاسبة؟ وكل ذلك لماذا؟؟ لأجل شعارات اجبرنا على تصديقها والدفع لها حتى الان. من جانب اخر، لماذا لا نرى هذا الإصرار في مطالبة الجاليات الفلسطينية المزدهرة في أوروبا وأمريكا بالمساهمة؟ لماذا لا يساهم بعض من يعيشون في رفاه الغرب إلا بصوت مرتفع عبر الإنترنت ولغة تحريض وشتائم ضد العرب والدول الداعمة تاريخيًا؟

الحقيقة المرة أن بعض النخب الفلسطينية في الشتات اكتفت بدور الناقد الأخلاقي من مسافة آمنة، بينما يعيش أهلهم داخل فلسطين في واقع مركّب بين الحاجة الاقتصادية، والاختناق السياسي، وبين قيادات أسيرة محور هنا، وتنظيم هناك، وسلاح لا يخدم سوى مصالح خارجية. كان الأولى بهؤلاء أن يقدموا نموذجًا في بناء مؤسسات فلسطينية قوية، لا أن يتركوا الشعب فريسة بين المطرقة والسندان.

ثم جاء مشهد غزة الدرامي والمبني على خرافة موبقة وذنبا لا يغفر؛ وتجسدت الفوضى الأخلاقية والسياسية في أسوأ صورها، اشعلها ارتكاب عمل اجرامي بحق المدنيين الإسرائيليين وإقامة مجزرة دموية. بلا شك، لم يأتِ الخراب الذي ضرب غزة من قرار حر واعٍ يضع أرواح أهالي غزة محل الاهتمام، بل جاء من مغامرة تقودها عقلية إجرامية مضطربة، أشعلت النار في أرض يعيش فيها أكثر من مليوني إنسان، ثم اختفت خلف خطاب ديني تعبوي ووعد بالتحرير المطلق، قبل أن تترك الأبرياء بين ركام منازلهم، وجثث أطفالهم، ومستقبل مفقود. أُحرقت غزة لتحيا شعارات جوفاء، وتحوّل أهلها إلى وقود لصراعات إقليمية، ودفع الفلسطيني دمه وروحه لأجل وجوه تافهة باعته بثمن بخس، وألقته في محرقة سياسية لم تجلب سوى الموت في شوارع غزة المهدمة. مرة باسم المقاومة، ومرة باسم الخيانة، وفي كلتا الحالتين القاتل يرفع الراية، والضحية هو الرجل البسيط في شوارع غزة والضفة.

هل كان مصير الفلسطيني معلّقًا دائمًا بيد أمثال المعتوه والمجرم يحيى السنوار ومن دار في فلكه؟ وهل كتب على هذا الشعب أن يُقاد دائمًا كالقطيع التائه ممن يسعون إلى تخليد دورهم في التاريخ ولو على جثث الأبرياء؟ لقد أدى هذا النهج إلى نسف ما تبقى من فرص الدبلوماسية والسلام، وخلق واقعًا جديدًا من الانهيار الإنساني والسياسي، لا يملك معه الفلسطيني إلا أن يسأل نفسه: من الذي يحرّر من؟ وكيف تُحرّر أرض لا يُحرَّر الإنسان الذي يسكنها أولًا؟

 

كان يمكن لهذه المنطقة أن تكون اليوم أكبر منطقة تكامل اقتصادي في الشرق الأوسط، تجمع الفلسطيني والإسرائيلي في مشاريع مشتركة، وتبني مستقبلًا قائمًا على الازدهار بدل الخراب. كان يمكن أن تكون القدس بوابة السلام، لا رمزًا دائمًا للدم. كان يمكن أن يعيش الفلسطيني بكرامة في دولته، ويزور جاره الاسرائيلي، ويتاجر معه، ويطوّر مجتمعه، بدل أن يصبح متنقلًا بين خطاب الاستشهاد اليوم، وبحث عن تصريح عمل غدًا.

الوقت لم يفت بعد، لكن الطريق ليس نفسه، إذا أراد الفلسطينيون مستقبلًا، فإن النهج يجب أن يبدأ بتحرير القرار من قبضة من يتاجرون بالدم، عبيد قرارت تأتيهم من دول إقليمية، ونهج يعيد الاعتبار للعقل ولحسابات الانسان الفلسطيني وللمصلحة الوطنية. لا معنى لشعارات بالية يُدفن فيها الإنسان. ولا معنى لنار تأكل أبناءها وتبقي على تجارها. المعركة الحقيقية ليست مع دولة إسرائيل، بل مع ثقافة داخلية تمجد الموت وتحتقر الحياة، وتبعية لأنظمة ودول إقليمية، ومع قيادات فلسطينية اختارت أن تكون أدوات لا قادة. من هنا يبدأ التحرير الحقيقي؛ تحرير الإنسان أولًا، ليصبح قادرًا على بناء وطن لا على دفن أحلامه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.