لا تشبه زيارةُ قداسةِ البابا إلى لبنان أيَّ زيارةٍ أخرى. فلبنانُ ليس بلدًا عابرًا في الجغرافيا الروحية للعالم الكاثوليكي، بل هو شريكٌ تاريخيٌّ للكرسي الرسوليّ، وموطنٌ لكنيسةٍ شرقيةٍ كبرى هي المارونية، التي شكّلت عبر قرونٍ جسرًا بين الشرق والغرب. من هنا، فإنّ زيارة البابا للبنان لا تُختصر في بُعدٍ رعويّ أو رمزيّ، بل تحملُ ثقلًا روحيًّا وسياسيًّا يُعيد إلى الأذهان صورةَ لبنان بوصفه رسالةً في عالمٍ يبحث عن التعايش.
في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2025، أعلن المكتبُ الصحفي للفاتيكان برنامجَ الزيارة المرتقبة التي تتضمّن قدّاسًا عامًّا في بيروت، وصلواتٍ مشتركة، ولقاءاتٍ مع القيادات الدينية والسياسية، وزيارةً رمزيةً لموقعِ انفجار مرفأ بيروت. وبقدر ما بدت هذه المحطاتُ متوقّعةً في الشكل، فإنّها تحمل في المضمون دعوةً عميقةً إلى مراجعةِ الذات اللبنانية، واستعادةِ ما تاهَ من معنى الوطن والعيش المشترك.
الأثر المعنويّ: نفَسُ الأمل في بلدٍ أنهكه الرماد
اللبنانيون، على اختلاف انتماءاتهم، تلقّوا إعلانَ الزيارة كما يتلقّى المريضُ جرعةَ طمأنينةٍ بعد طولِ وجع. فمجردُ أن يضع رأس الكنيسة الكاثوليكية يده على جراح لبنان، يذكّر العالم بأنّ هذا البلد الصغير ما زال يستحقّ أن يُنقَذ. إنّ صلاة البابا في موقع المرفأ ليست مجرّد فعلٍ دينيّ، بل ضغطٌ أخلاقيٌّ على الضمير الإنسانيّ، ورسالةٌ صامتةٌ إلى العالَم بأنّ العدالةَ لا تُبنى على النسيان.
الأثر الدبلوماسيّ: استعادةُ الانتباه الدوليّ
زيارةُ البابا تفتح أيضًا نافذةً دبلوماسيةً جديدة أمام لبنان. فهي تدعو المجتمعَ الدوليّ، عبر البُعد الإنسانيّ، إلى تجديدِ دعمه لهذا البلد المنهك. ومن المتوقّع أن تؤدّي إلى تحريك بعض القنوات المانحة والهيئات الكنسية في أوروبا نحو مشاريعَ إنمائيةٍ وتربويةٍ واجتماعيةٍ تُعيد شيئًا من التوازن إلى مجتمعٍ مهدّدٍ بالانهيار. فالكلمةُ التي تُقال على منبر القداس قد تفتحُ بابًا في قصرٍ دوليّ.
الأثر السياسيّ: بين واقعٍ مأزومٍ وضغطٍ أخلاقيّ
في الداخل، قد تمنحُ الزيارةُ دفعةً معنويةً للمسيحيين اللبنانيين، وتعيدُ التوازنَ إلى موقعهم في الحوار الوطنيّ. لكنها، في المقابل، قد تُستغلّ من بعض القوى السياسية التي ستسعى إلى توظيفها لتحسين صورتها أمام الخارج أو لإعادة تموضعها داخليًّا.
ومع ذلك، فإنّ زيارةً بهذا الحجم تضعُ الجميعَ أمام مسؤولياتهم. فخطابُ البابا، الذي سيركّز على “طريقِ السلام والعدالة”، سيكون بمثابة مرآةٍ أخلاقيةٍ تُحرج الطبقةَ الحاكمة، وتدعوها إلى التراجع عن لعبةِ المحاصصة والفساد الماليّ والإداريّ، واستعادةِ معنى الخدمة العامة.
لكن يجب القول بوضوح: زيارةُ البابا لن تُبدّل المعادلاتِ الجذريةَ ما لم تتوافر إرادةٌ لبنانيةٌ صادقةٌ بالإصلاح. فالرمزُ وحده لا يكفي إذا غابت السياسةُ الرشيدة.
البعد الإقليميّ: رسالةُ توازنٍ إلى الجوار المتوتر
لا يمكن فصلُ زيارةِ البابا عن محيطها الإقليميّ. فهي تحمل رسائلَ واضحةً إلى القوى المؤثّرة في الساحة اللبنانية، من طهران إلى الرياض. إنها دعوةٌ إلى تهدئةِ التوتّرات الطائفية والمذهبية، وإلى إعادةِ بناءِ لغةٍ مشتركةٍ تُعيد الاعتبارَ للإنسان فوق الانتماء. ومن المتوقّع أن تُقرأ الزيارةُ في بعض العواصم العربية كإشارةٍ إلى ضرورةِ دعمِ لبنان كحيّزٍ حياديٍّ للقاء، لا كساحةِ صراعٍ بالوكالة.
البعد الروحيّ والاجتماعيّ: إعادةُ اكتشافِ الإنسان
في بلدٍ تتآكل فيه القيمُ وتنهارُ الثقةُ بالمؤسسات، يأتي حضورُ البابا ليذكّر اللبنانيين بأنّ الإعمارَ الحقيقيّ يبدأ من الإنسان لا من الحجر. فالأزمةُ اللبنانية ليست اقتصاديةً فحسب، بل هي أزمةُ معنى: معنى الدولة، ومعنى الأخوّة، ومعنى الرجاء.
ومن هنا، فإنّ أثر الزيارة الأعمق سيكون في إعادةِ إحياء الضمير الجمعيّ، وفي ترميمِ فكرةِ "لبنان الرسالة" التي طالما تغنّى بها يوحنا بولس الثاني. إنها دعوةٌ لتذكير الناس بأنّ هذا الوطن وُجد ليكون مساحةَ لقاءٍ لا ميدانَ مواجهة.
خطواتٌ عملية لتحويل الزخم إلى فعل
لكي لا تبقى الزيارةُ حدثًا عابرًا في الذاكرة، لا بدّ من ترجمتها إلى مبادراتٍ ملموسةٍ على الأرض.
أولًا: إطلاقُ ميثاقِ تضامنٍ اجتماعيّ بين المؤسسات الدينية والمجتمع المدنيّ لتوحيد الجهود في دعمِ الأسر الفقيرة والمتضرّرة من الأزمات.
ثانيًا: استثمارُ الزخمِ الإعلاميّ لإطلاق حملةٍ دوليةٍ لتوثيق أضرار مرفأ بيروت وربطها بخطةٍ تمويليةٍ شفافةٍ تُشرف عليها جهاتٌ مستقلةٌ محليةٌ ودولية.
ثالثًا: إنشاءُ برامجَ تعليميةٍ مشتركةٍ بين الكنائس والمساجد تُعنى بثقافة التعايش والتربية المدنية، لأنّ مستقبل لبنان يُبنى في المدرسة قبل البرلمان.
رابعًا: تفعيلُ دور الجاليات اللبنانية في الخارج كقوّةٍ داعمةٍ لمشاريعَ إصلاحيةٍ صغيرةٍ ومستدامةٍ بعيدًا عن الاصطفافات.
خامسًا: الدعوةُ إلى آليةِ رقابةٍ مستقلةٍ تُتابع تنفيذَ المشاريع المعلنة باسم الزيارة، كي لا يتحوّل الضوءُ الروحيّ إلى غبارٍ سياسيّ.
الخاتمة: من الرمز إلى النهضة
قد لا تُغيّر زيارةُ البابا لبنان بين ليلةٍ وضحاها، لكنها تُعيدُ إليه ما فقده: الإحساسَ بأنّ العالم ما زال يسمعُ أنينه. إنها فرصةٌ نادرةٌ ليقف اللبنانيون أمام ذواتهم، ويسألوا: ماذا نريد أن نكون بعد هذا الخراب؟
الجوابُ ليس في الكلمات، بل في الفعل.
فلنجعل من هذه الزيارة رسالةً تُترجم إلى مشروعٍ وطنيٍّ يعيدُ إعمارَ الإنسان قبل الحجر، ويُحيي فكرةَ لبنان الواحد المتضامن، ذلك الوطن الصغير الذي لا يزال، بالرغم من كلّ شيء، يؤمن بأنّ الرجاء أقوى من الركام، وأنّ النورَ أقربُ ممّا نظنّ.


