: آخر تحديث

بين الأمن البحري والنمو الاقتصادي: ملامح الشراكة البريطانية الخليجية

3
3
2

الخليج في قلب النظام الدولي
تحتل دول الخليج، وفي مقدمتها سلطنة عُمان، موقعًا محوريًا في النظام العالمي بفضل دورها في استقرار أسواق الطاقة ومرور التجارة البحرية عبر ممرات حيوية مثل مضيقي هرمز وباب المندب. ومع تغير المشهدين الاقتصادي والأمني في المنطقة، تتجه العواصم الخليجية إلى بناء شراكات عالمية تُسهم في تنويع الاقتصاد وجذب الاستثمارات النوعية وتوطين التكنولوجيا، بما يعزز دور الشباب في اقتصاد المعرفة، وهي أهداف تتماشى مع رؤية عُمان 2040 ورؤية السعودية 2030 وغيرها من البرامج التنموية الخليجية.

هنا، تتقدم الشراكة مع المملكة المتحدة بوصفها مسارًا عمليًا لدعم الاستقرار وبناء اقتصاد خليجي متطور يعتمد على التكنولوجيا والمعرفة، في علاقة تتجاوز الماضي نحو مستقبل مشترك أكثر قدرة وتوازنًا.

تطور الدور البريطاني: من النفوذ إلى الشراكة
لطالما احتلت منطقة الخليج موقعًا مركزيًا في السياسة الخارجية البريطانية. إلا أن العلاقة اليوم لم تعد تُعرَّف من خلال النفوذ التاريخي، بل من خلال شراكة واقعية تقوم على المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة. وتؤكد المراجعة الاستراتيجية للدفاع البريطانية لعام 2025 أن دول الخليج تمثل نموذجًا للتعاون الأمني والاقتصادي طويل الأمد، القائم على تبادل الخبرات وتنسيق السياسات الدفاعية والتجارية.

وقد شدد وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي على أن التعاون الحالي يركز على تعزيز القدرات الإقليمية ودعم مشاريع مستقبلية، وليس إدارة النفوذ، ما يعكس نهجًا استراتيجيًا جديدًا يرتكز على النمو، والتعاون الصناعي، وأمن الممرات البحرية، وتبادل التقنيات الدفاعية.

ويعزز هذا التوجه كلٌّ من صندوق الاستراتيجية الخليجية والمراجعة الدفاعية لعام 2025، فيما يشكّل دور "المستشار الدفاعي الأول للشرق الأوسط" في وزارة الدفاع دليلاً على انخراط دفاعي مستدام ومنهجي، وليس مؤقتًا أو عابرًا. وتلعب سلطنة عُمان، من خلال سياستها القائمة على الدبلوماسية المتوازنة والحياد البنّاء، دورًا محوريًا داخل هذا الإطار الجديد، عبر بناء قنوات للحوار، والإسهام في أمن البحار، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي الإقليمي.

بريطانيا كعامل استقرار وشريك موثوق
تتبع المملكة المتحدة نهجًا عمليًا في تعاونها الأمني مع الخليج، يقوم على تعزيز القدرات الوطنية وتطوير الجاهزية الدفاعية أكثر من الاعتماد على القوة الخارجية وحدها. ويتجسد هذا التوجه عبر برامج تدريب متقدمة، ومشروعات للتصنيع الدفاعي المشترك، وتوسيع التعاون في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني.

ومن الأمثلة البارزة على ذلك التعاون بين مؤسسات خليجية وشركات بريطانية مثل Quantexa التي تعمل من دبي وتقدّم خدماتها لمؤسسات في المنطقة، بما يعزّز استقلالية اتخاذ القرار إقليميًا، ويسهم في بناء أنظمة رقمية قادرة على مواجهة التهديدات الناشئة.

وكما يشير تحليل مركز Janes، فإن الهدف الأساسي للوجود البحري البريطاني هو "منع التصعيد وتعزيز الاستقرار، لا فرض الهيمنة". ومن أبرز الأمثلة على التعاون الأمني والعسكري بين لندن والعواصم الخليجية لدعم الأمن والاستقرار في المنطقة:

- انتشار مجموعة الحاملة البريطانية تخلّله تدريب ومناورات متعددة الجنسيات في المنطقة، بما يعزّز التنسيق العملياتي وحماية خطوط الملاحة.

- نشر طائرات التايفون التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني في قطر، حيث يواصل السرب المشترك البريطاني–القطري (السرب 12) عمله كوحدة ثنائية.

- تطوير وتعميق التعاون البحري، مع الإشارة إلى أن برامج الفرقاطات البريطانية تُستَخدم كنماذج تصدير دولية: فتصميم Type-26 تم تبنيه في كندا وأستراليا (وتغطيات حديثة حول النرويج)، بينما اختارت بولندا وإندونيسيا تصميم Type-31/Arrowhead 140 للتشييد المحلي.

- تشارك المملكة المتحدة بانتظام في حماية الملاحة عبر وجودها الدائم ضمن عملية Kipion، ومساهمتها في القوة البحرية المشتركة (CMF) في البحرين، ودورها في عملية حارس الازدهار في البحر الأحمر، ضمن مقاربة "الردع من خلال الحضور".

منطق الشراكة لا التبعية
تقوم المقاربة البريطانية في الخليج على تطوير قدرات الشركاء بدلاً من فرض وصايات. وينعكس ذلك في برامج تدريب واسعة للقوات البحرية والجوية، ومشروعات تصنيع دفاعي مشترك في دول مثل السعودية والإمارات، إضافة إلى نقل تكنولوجيا وخبرات متقدمة في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي.

وفقاً للورقة الاستراتيجية البريطانية فإن لندن تهدف إلى تعزيز القدرة الإقليمية على حماية المصالح البحرية والاقتصادية، لا خلق اعتماد طويل الأمد. وتبرز أهمية هذا النهج مع اتساع دور دول الخليج ومن بينها عُمان في الملفات الإقليمية من اليمن والبحر الأحمر إلى أمن الطاقة في شرق أفريقيا.

كما أسهم الوجود البريطاني في دعم جاهزية القوات وتسهيل التعاون العملياتي بعد التحولات العالمية مثل الانسحاب من أفغانستان وإعادة التموضع العسكري في أوروبا. وفي الوقت نفسه، أصبحت مشاريع الدفاع المشتركة رافعة لتعزيز الثقة المتبادلة وتطوير صناعات محلية قادرة على المنافسة الإقليمية.

البعد الاقتصادي والتنموي
لا تقتصر الشراكة بين المملكة المتحدة ودول الخليج على المجال الأمني، بل تمتد إلى الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا، بما ينسجم مع مساعي دول المنطقة لتنويع مصادر الدخل وتطوير سلاسل إنتاج متقدمة. وتبرز هنا التقاطعات الواضحة بين رؤية عُمان 2040 ورؤية السعودية 2030 وبرامج الإمارات الاقتصادية، وبين الاستراتيجية الصناعية البريطانية التي تستهدف تعزيز التصنيع المتقدم والطاقة النظيفة.

وفي هذا الإطار، شهدت العلاقات الاقتصادية بين المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية دفعة نوعية في 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2025، مع الإعلان عن حزمة تعاون واستثمار كبرى مدعومة من وكالة تمويل الصادرات البريطانية (UKEF)، شملت مجالات التمويل والبنية التحتية والتكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي. ويأتي هذا التوجه في سياق تشجيع الشراكات الاستراتيجية التي تسهم في دعم قدرات التصنيع المحلي وتعزيز الابتكار، بما يتماشى مع رؤية السعودية 2030 والجهود البريطانية لدعم قطاعات المستقبل.

وخلال زيارته الأخيرة إلى المنطقة، أكد وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي أن التعاون الاقتصادي مع دول الخليج يهدف إلى "خلق فرص عملية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والطاقة المستقبلية والخدمات المالية"، ضمن مسار شراكة يرتكز على الاستثمار في التطوير والتنويع الاقتصادي. كما تواصل لندن ومجلس التعاون مفاوضاتهما حول اتفاقية التجارة الحرة، التي قد ترفع حجم التبادل التجاري بما يصل إلى 16 بالمئة سنويًا.

وتشهد عُمان على وجه الخصوص نشاطًا تجاريًا متزايدًا مع الشركات البريطانية، مدعومًا ببيئة استثمارية تتطور بسرعة، وموقع لوجستي يجعل السلطنة حلقة وصل رئيسية بين الخليج والأسواق الآسيوية والأفريقية، ما يعزز دورها كوجهة للأعمال وسلسلة إمداد إقليمية متقدمة.

هذا الحراك لا يُعبّر فقط عن مصالح اقتصادية متبادلة، بل عن توجه استراتيجي لبناء اقتصاد قائم على المعرفة والتكنولوجيا، يمكنه دعم الاستقرار الاقتصادي الإقليمي وتعزيز تنافسية دول الخليج في القطاعات المستقبلية. وتُظهر المؤشرات الاقتصادية حجم التقدم المحقق، إذ يُعد المستثمرون البريطانيون من بين الأكبر في السوق العُماني، ما يعكس اهتماماً متزايداً بالسوق الواعد وثقة متنامية في بيئة الأعمال العُمانية.

الدبلوماسية البحرية: الردع من خلال الحضور
تُعدّ الدبلوماسية البحرية أحد أهم أدوات التعاون بين بريطانيا ودول الخليج، حيث تساهم في ضمان أمن الممرات البحرية وحماية تدفق التجارة والطاقة عبر مناطق مثل مضيق هرمز والبحر الأحمر. ويعتمد هذا النهج على مبدأ "الأمن من خلال الحضور المستمر"، عبر دوريات مشتركة، وتمارين متعددة الجنسيات، وتبادل خبرات في الأمن البحري ومكافحة التهديدات غير التقليدية.

خلال السنوات الأخيرة، عززت بريطانيا مشاركتها في جهود حماية الملاحة عبر التحالفات البحرية الدولية المنتشرة في الخليج والمحيط الهندي، بما في ذلك مشاركة وحدات البحرية الملكية ضمن قوة الأمن البحري الدولية (IMSC) ووجودها التشغيلي ضمن عمليات البحرية المشتركة (CMF) في البحرين. وتؤدي لندن دورًا محوريًا في إطار ترتيبات الأمن الجماعي القائمة على حماية خطوط التجارة العالمية وتعزيز حرية الملاحة.

وتبرز سلطنة عُمان كشريك رئيسي في هذا السياق، نظرًا لموقعها الاستراتيجي على واحد من أهم محاور التجارة الدولية، وكونها مركزًا لوجستيًا صاعدًا وقاعدة للتنسيق الأمني الإقليمي، ما يجعلها ركيزة أساسية في منظومة الأمن البحري في المنطقة.

نحو شراكة طويلة الأمد: الثقة والاستمرارية
تتجه العلاقة البريطانية – الخليجية اليوم نحو نموذج أكثر استدامة وواقعية، يقوم على تعاون أمني واقتصادي طويل المدى وتطوير أدوات مشتركة لحماية مصالح الطرفين. وفي هذا الإطار، تواصل المملكة المتحدة ودول الخليج، ومن بينها سلطنة عُمان، العمل على تنسيق الجهود في مجالات الأمن البحري والطاقة النظيفة والتكنولوجيا والتعليم، بما يعزز قدرة المنطقة على التكيّف مع التحولات الدولية ويخلق بيئة اقتصادية أكثر تنافسية.

وخلال زياراته إلى مسقط والدوحة، شدد وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي على أن التعاون مع دول الخليج جزء من رؤية لندن لعالم تُدار فيه العلاقات عبر الشراكات البنّاءة والاستثمار في الاستقرار والتنمية. وفي السياق نفسه، أشار رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى أن موقع الخليج ودوره في الأسواق العالمية يجعلان منه شريكًا طبيعيًا في صياغة مستقبل أكثر توازنًا وتعاونًا.

ومع توسّع مشروعات الدفاع البحري وتبادل الخبرات الصناعية، تصبح بريطانيا عنصر دعم أساسي في تطوير القدرات الإقليمية، لا مجرد قوة مراقبة من الخارج. وتتيح المشاريع البحرية المشتركة مثل برامج الفرقاطات Type 26 وType 31 بناء قاعدة صلبة للتعاون التكنولوجي والصناعات المستقبلية.

إن استقرار الخليج ليس قضية إقليمية فحسب، بل ركيزة في استقرار النظام الاقتصادي العالمي. ومع تطور البيئة الجيوسياسية، يستمر العمل المشترك لتعزيز أمن الممرات البحرية، وتطوير اقتصاد يقوم على الابتكار والتكنولوجيا، بما يجعل الشراكة البريطانية – الخليجية نموذجًا للتعاون العملي الذي يحمي المصالح ويصنع الفرص.

خاتمة: مسؤولية مشتركة من أجل الأمن والازدهار
اليوم، تتجه العلاقات البريطانية – الخليجية نحو مرحلة جديدة عنوانها الشراكة المستدامة المبنية على الثقة والمصالح المتبادلة. فاستقرار الخليج وازدهاره يشكّلان ركيزة للاستقرار العالمي، وبريطانيا ترى في التعاون مع دول مجلس التعاون جزءًا من رؤيتها لعالم أكثر ترابطًا وتعاونًا. ومع تسارع التحولات الإقليمية والدولية، تبقى المملكة المتحدة شريكًا موثوقًا قادرًا على دعم أمن الخليج وتعزيز فرصه الاقتصادية، في إطار مسؤولية مشتركة لصناعة مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.