: آخر تحديث
إيلاف أول صحيفة عربية توثق تحوّل الرمال إلى مشروع سيادي

السعودي الذي رأى الصحراء المغربية قبل أن تراها الأمم المتحدة

2
2
1

قبل أن تتبنى الأمم المتحدة الحكم الذاتي كحل واقعي لقضية الصحراء، كانت "إيلاف" هناك، تخطّ بعيون صحافي سعودي أول رواية عربية من قلب العيون والداخلة. سبقٌ تحوّل اليوم إلى شهادة تاريخية على انتصار السيادة المغربية بالتنمية لا بالسلاح.

مقال الزميل سلطان السعد القحطاني
في 31 أكتوبر 2025، تبنّى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار الذي وصف بأنه تحوّل تاريخي في مسار قضية الصحراء، إذ أعلن أن الخطة المغربية للحكم الذاتي تحت السيادة الوطنية تمثّل الحل الأكثر جدوى وواقعية للنزاع الممتد منذ عقود. القرار حظي بتأييد واسع داخل المنظمة الدولية، واعتُبر تتويجاً لجهود دبلوماسية مغربية استمرت سنوات، عنوانها التنمية بدل الصراع، والواقعية بدل الأوهام.

لقد بدا واضحاً أن المقاربة التي انتهجتها المملكة المغربية – من منطلق التنمية والاندماج السياسي تحت راية الوطن – انتصرت، ليس فقط في الميدان، بل أيضاً في أروقة الأمم المتحدة، حيث تحوّل النقاش من جدل الانفصال إلى تثبيت مبدأ السيادة المغربية مع حكم ذاتي موسّع. وفي ذلك تحقق ما كان يُرى قبل أعوام على أنه مجرّد حلم سياسي بعيد المنال. 

وحين أستعيد زيارتي إلى الصحراء المغربية في العام 2013، أجد في تلك المشاهد الأولى بذور التحوّل الذي نشهده اليوم. لقد كنت أول صحافي سعودي يزور تلك الرقعة الصفراء المتربة في الشمال الأفريقي، وربما كنت الأخير. رأيت في العيون والداخلة إرادة تُبنى بالحجر والأمل والإنسان، إرادة تسبق الاعتراف الدولي بخطوات طويلة. واليوم، بعد اثني عشر عاماً، صار ما كان مجرد فكرة مغربية خالصة، قراراً أممياً يعبّر عن قناعة دولية بأن الحل في المغرب، لا خارجه.

يا له من أزرق، أزرق، أزرق، مدهش، هذا الذي يسمونه الأطلسي، موجاً، وإعصاراً، وطوفاناً، وأحلام غد. ويا لها من شمس، هذه المكورة الذهبية، التي تتدلى من السماء، ثم تصبغ بعضاً من لونها، كثبان الرمل، ثم تكوي السهول، والسهوب، والتلال، صيفاً، بنارها الوضاءة.

يا لها من صحراء قبل كل شيء، وبعد كل شيء: ضفافاً، وضفةً، وشاطئاً، ورملاً، ولون شروق.

إنها العيون، هذه المدينة الصحراوية، على الطرف المغبّر من جنوب المغرب. قصة مغربية مثيرة للعجب، والتعجّب، والإعجاب، من البحر إلى الرمل. كل شيء مثير للدهشة هنا. قبل انطلاق جولة تضم مجموعة من مندوبي الصحافة العربية، كنا نتحدّث عن شكل هذه الصحراء التي سمعنا عنها، ولم نرها. وحين بدأت رحلة الاكتشاف، تغيّرت كافة الصور العالقة في أذهاننا.

بعد حديث مسائي مع وزير الإعلام، والقائد العسكري في المنطقة، جاء الصباح لرحلة اكتشاف أخرى. بدأنا في المسير من مقر نادي الضباط، على غير مبعدة من المطار، إلى المدينة، وقلبها النابض. نعبر بين كثبان الرمل، والصحراء، حتى نصل إلى مدينة العيون، حيث تبدأ الأناقة المدنية. العيون هي عاصمة الصحراء منذ الاستعمار الإسباني. حين رأيت الصحراء أول مرة هتف قلبي. استيقظت الصحراء في داخلي. قلت للقادمين من بلاد التين، والزيتون، وطور سنين، والأنهار، أن هذه الصحراء تذكرني بالرياض، والكثبان، ونجوم السماء الصافية.

هذه المدينة تعيش في حيرة ساحرة، بين الصحراء والبحر، تماماً مثل شقيقتها الداخلة. في “العيون” وشقيقاتها من مدن الصحراء، أكثر من ربع مليون جندي مغربي، مقاتل مدرّب. الصحراء مسألة حياة أو موت بالنسبة للمغرب.

يشير آخر إحصاء إلى أنّ عدد سكانها يجاوز 240 ألف.

الملكية المغربية، مصرة أشدّ الإصرار، على الحرب دون حرب، وسلاحها التنمية، وكأنها مؤمنة بانتصار قضيتها، رغم صراع جبهة البوليساريو المزعج، ورماح الجارة الجزائر، ولا يعرف ما الذي تريده موريتانيا، من كل هذا التغاضي عن النشاطات الصحراوية.

كثير من المباني الأنيقة في المدينة، تلفت النظر، ونحن نتوجه إلى ميناء العيون البحري، على ضفة الأطلسي الساحر. هنا قصة نجاح مغربية أخرى، فقد توسّع حجم الميناء أكثر، فأكثر، بعد أن تزايدت أهميته. يقول لي قائد الميناء، ومسؤولوه، أنّ هناك رغبة لزيادة حجمه، وتوسعته مرة أخرى.

ننظر إلى بقايا الماء على الشاطئ. شاطئ لؤلؤي، فقد كانت الشمس تبث أشعتها بحنان، وعشرات الأسراب، من النوارس البيضاء، تهبط، ثم تطير، ثم تهبط، ثم تطير، بيضاء، بيضاء. هذا الميناء يُصدّر كل شيء، حتى الرمل، والوجهة جزر الكناري، كي تزداد شواطئها جمالاً، وسحراً، وإذا هبّت الريح، تعود الرمال إلى المغرب، وكأنّ الطبيعة تتواطأ معه، ثم يعاد تصديرها مرة أخرى!

في مقر ولاية العيون بدأ الحديث عن السياسة. قال لنا الوالي أنّ قضية الصحراء هي قضية كل العرب. ثم يعدد الاستثمارات المليونية التي قدمتها الدولة.

يقول لي ولزملائي من الصحف العربية: “المشكلة الأساسية هي مع الجزائر، أما البوليساريو فهي لعبة أنشأها القذّافي وتعهدتها الجزائر بالعناية… لا نريد من الجزائر إلا حسن الجوار. نحن هنا نعيش ظروفاً طبيعية”.

بعدها نستمع إلى شرح حول المدينة، وكيف تستوعب العائدين من مخيمات اللاجئين، إذا قدر لهم العودة، والهروب من مخابرات الجزائر، والبوليساريو، الذين يمنعون الصحراويين من مغادرة مخيم تندوف، ذلك المكان المخيف، سيء السمعة.

حين أبدي تعجبي من نهضة الصحراء، على غير ما سمعت، يلتفت إلى مغربي صديق، وثيق، ويقول باسماً: “أنتظر حتى ترى الداخلة”. وفعلاً، كان الدخول إلى “الداخلة” قصة طموح أخرى.

استيقظت عند التاسعة. من نافذة غرفتي كنت أرى الأطلسي أمواجاً زرقاء ساحرة، وأشمه نسيماً يدخل غمار القلب. من مقر إقامتنا عبرنا إلى مبنى ولاية وادي الدهْب – الكويرة، حيث لم يكن يبعد سوى خطوات عنا. كانت الشمس حنونة، عذبة، دافئة.

والي الداخلة سفير سابق في الأمم المتحدة، هناك في نيويورك العظمى، على الضفة الأخرى من الأطلسي. سياسي مثقف. دار حديث الليلة السابقة عن كل شيء. قال لنا بوضوح أنّ لا مفرّ من الديمقراطية، ثم تحادثنا عن العالم العربي، ومستقبله، وبعدها حديث عن الإعلام الإلكتروني. نظرت إلى طاولة العشاء، وكان عليها المغرب بكل أشكاله، موالون، ومعارضون، والكل دخل في العملية السياسية، بعد دستور جديد، شكل وجهاً جديداً للملكية.

ماذا عن الصحراء؟ لم تعد صحراء، بل مبانٍ واسعة أنيقة، وشعبٌ لا يريد أن يكون جزءاً من دولة أخرى.

رئيس مجلس الجهة، وهو مجلس منتخب، يتحدّث لنا عن كيف تغيّرت هذه المدينة، بعد أن كانت مجرد ثكنات عسكرية، ودورٍ خربة، تركها الإسبان. يتحدّث الرئيس اليساري عن أحلام المستقبل، ونهضة هذه الصحراء، بلهفة من يشاهد المستقبل بعينيه.

يؤكّد لنا أنّه من جيل الوحدة المغربية، وأن دولةً قريبة، حاولت التدخّل، وتخريب هذه الوحدة، رغم أن المغرب أكّد على ضرورة الحكم الذاتي، والكل دعم هذا الاقتراح، إلا الجزائر.

هناك من وُلد في عهد الوحدة، وهناك من وُلد في عهد الاستعمار، عهد فرانكو المخيف، والكل يعرف الفرق بين ما كانت عليه الصحراء، وما هي عليه الآن.

“لا نريد الربيع، ولا نريد دولة أخرى، نريد الاستقرار”… يقول لنا رئيس المجلس البلدي، وهو بدوي من أبناء الصحراء تحدّث معنا بالدارجة، وقد اختبر الاستعمار وآثاره.

يقول لنا أنّ المدينة تشهد نهضة كبيرة، بعد أن كانت مدناً من صفائح، وفقر، والآن هي مدينة حضرية.

والي الداخلة يتحدّث: “هناك نمط تنموي نعمل عليه، ونستهدف زيادة الوظائف، وسياستنا هي التفاوض لحل الأزمات السياسية، خصوصاً الصحراء، فنحن نشجّع الشرعية الدولية… الأمم المتحدة التي اقترحت الاستفتاء لتقرير مصير الصحراء لم تفلح في تنظيمه، وآخر التسعينات رفعت يديها واعترفت بعجزها”.

ويضيف قائلاً: “كان الفضل لبلادي في إدخال الإسلام في إفريقيا فلا يمكن أن يأتي طرف ليقتطع المغرب من جذوره. هل تعلمون أنّ ما يسمى بحركة التوحيد والإصلاح في شمال مالي كان من بين مقاتليها الألف نحو مئتي من لاجئي مخيم تندوف؟”.

وعن قيادة البوليساريو: “من انتخب محمد بن عبد العزيز؟ لم تُجر انتخابات في مخيم تندوف على حسب علمي، فعلى أي أساس يتولّى القيادة؟…. مصلحة المنظومة العربية هي الاستقرار ـ والأمم المتحدة لديها مشروع يحظى بإجماع، بينما الطرف الآخر لا يوجد لديه سي. لا توجد لدينا مشكلة مع المنظومة العربية بل مع جيرنا هداهم الله”.

لقد كانت الصحراء المغربية بالنسبة لي، وأنا أزورها في 2013، وعداً قيد التحقق. أما اليوم، فهي قصة تحقق كاملة، ختمتها الأمم المتحدة بختم الشرعية، وكتبها المغرب بلغة التنمية والإصرار.

لقد انتصرت الواقعية المغربية على خطابات الشعارات التي أنهكت الإقليم. لم تعد الصحراء مجرّد ملف سياسي عالق، بل مشروع تنموي حيّ يتّسع لمدنٍ وأحلامٍ وناسٍ، تحوّلوا من رعاةٍ في الأطراف إلى مواطنين في قلب الوطن. وبين رمل الأطلسي ومائه، ربح المغرب معركة الوعي قبل أن يربح قرار الأمم المتحدة. فمن يزر الصحراء اليوم، يدرك أنّ السيادة لا تُفرض بالحدود، بل تُبنى بالتنمية، وتُصان بالإرادة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.