: آخر تحديث

من الدكتاتورية إلى الفساد... ماذا تغيّر في العراق؟

1
1
1

منذ أكثر من أربعة عقود يتأرجح مصير العراق بين قهرٍ مركزيٍّ مكثّف وفسادٍ مشتت، بين حربٍ صنعتها الدولة واستنزفتها وبين نظامٍ جديد لم يتمكّن من بناء دولة عادلة. لم يكن سقوطُ شخصٍ واحد نهاية القصة، لأن بنية الدولة والإدارة والذاكرة الاجتماعية حملت معها بذور الأزمات التي ما زال العراقيون يدفعون ثمنها.

أُنشئت آلةُ الدولة في عهد صدام حسين على قاعدةٍ من المركزية المطلقة: قراراتُ الحرب والسلم والثروة مركزية، وسياسةٌ خارجية مغامِرة أدت إلى نتائج مدمرة. الحرب الطويلة مع إيران (1980–1988) هي مثال صارخ: صراعٌ استنزف الموارد وخلف خسائر بشرية ومادية هائلة، وتقديرات تاريخية مرجعية تتحدث عن مئات الآلاف من القتلى والآثار الطويلة الأمد على المجتمع والاقتصاد. ثم جاء غزو الكويت في 2 آب (أغسطس) 1990، فاندلعت عمليةٌ دولية ردًّا على ذلك، وفرضت الأمم المتحدة عقوباتٍ ما لبثت أن بددت اقتصاد العراق وضيّقت هامش المناورة السياسية داخليًا وخارجيًا.

تفخيخ الاقتصاد والحصار والإنفاق العسكري ترك عراقاً متعباً قبل أن يسقط نظامه عام 2003. دخول التحالف الدولي وإسقاط النظام لم يؤديا بالضرورة إلى تأسيس دولة قانون، بل أعقبهما انهيار مؤسساتي سريع ونقاش طويل حول من يبني الدولة وكيف تُدار ثرواتها. هكذا استُبدِلت دكتاتورية القرار الفرديّ بنموذج سلطة مشتتة، حيث الظفر بالمناصب والتحالفات والحصص صار معيارًا أكثر من الكفاءة والمسؤولية.

الدستور العراقي لعام 2005 نصّ بوضوح على نظامٍ فدرالي: «الجمهورية العراقية دولة اتحادية واحدة». هذا النص فتح حقًا إطارًا قانونيًا لتوزيع السلطات بين المركز والأقاليم، لكنه اصطدم في التطبيق بعقليةٍ مركزية ومزايدات سياسية حول التفسير والتنفيذ، خصوصًا فيما يتعلق بمناطق الخلاف مثل كركوك ومسألة المادة 140. لذا ظلّت العلاقة بين بغداد وأربيل سجالاً مستديمًا حول العوائد النفطية، إدارة الحقول، وتطبيق الفيدرالية عمليًا.

من جانبٍ آخر، دفع الأكراد ثمنًا باهظًا قبل 2003: سياساتٌ منعتهم من حقهم في الأمن والسكن والهوية. حملةُ الأنفال عام 1988 ومجزرةُ حلبجة الكيميائية تظل من أكثر صفحات العنف وحشية في تاريخ العراق الحديث، حيث وثّقت منظمات حقوقية أن آلافًا قتلوا في هجماتٍ كيميائية وحملات إبادة ممنهجة طالت القرى والمدن الكردية. كما مارست السلطة المركزية سياسات "التعريب" في محافظات مثل كركوك، ما أدّى إلى تهجير وإحلال وتغييرٍ ديموغرافي أثّر في التركيبة الاجتماعية للمنطقة لسنوات طويلة.

بعد 2003 تغيّر شكل التهميش لكنه لم ينتهِ، بالرغم من أن الدستور أتاح الفيدرالية، ظل التطبيق عالقًا في الخلافات على الحدود والحقول والنفط والميزانية، ومن ثم شهدت علاقات بغداد – أربيل مراحل من التوتر السياسي والاقتصادي وصولاً إلى فترات تجميد لحقوق أو لإيرادات أو لرواتب الموظفين، ما بيّن أن عقلية المركزية لم تغادر المشهد كما ينبغي.

وليس الأكراد وحدهم من دفع الثمن. الأقليات الدينية في العراق تعرّضت لتهجيرٍ واعتداءاتٍ طالت معابدها وكنائسها، وفقدت آلاف الأسر مواطنها التاريخيّ. المجتمع المسيحي، الذي كان يُقدّر قبل 2003 ببضع مئات الآلاف إلى أكثر من مليون نسمة بحسب التقديرات المختلفة، شهد موجات هجرة وانخفاضًا حادًّا في أعداده بعد 2003 وبالأخص بعد 2014 حين هاجم تنظيم داعش مناطقهم في الموصل وسهل نينوى، وتهجّر مئات الآلاف أو هاجروا إلى الخارج. تقارير صحفية ودولية رصدت أن آلاف العائلات المسيحية غادرت قراها، وأن مدنًا مثل قراقوش شهدت نزوحًا جماعيًا خلال تقدم داعش عام 2014.

الإيزيديون عانوا من جريمةٍ منظمة حين سيطر "داعش" على سنجار وجوارها صيف 2014: اختطافاتٌ جماعية بالآلاف، قتل وتهجير، وحالة نزوح واسعة لا تزال آثارها تمتد. تقديرات المنظمات الإنسانية تشير إلى أن أعداد المختطفين والضحايا تتراوح في نطاق آلاف، وأن مئات الآلاف من الإيزيديين ظلوا نازحين أو في حاجةٍ لمأوى ودعم بعد الحملة. الجهات الدولية صنّفت بعض ما حدث لإيزيديي سنجار كجريمة إبادة جماعية.

هذه المآسي الإنسانية والتهجير لا يمكن فصلها عن انهيار الدولة وغياب العدالة، إذ أن الفساد المستشري جعل من التعافي والإعمار سوقًا رائجة للصفقات المشبوهة. تقديراتٌ رسمية وتقارير تحقيقية تضع إجمالي الأموال المُهرَّبة أو المسروقة من العراق منذ 2003 بمئات المليارات، أرقامٌ مختلفة تتراوح في التقارير بين نحو 150 مليار دولار (كمبلغ أشار إليه مسؤولون عراقيون) إلى تقديراتٍ أوسع تصل إلى مئات المليارات بحسب أساليب احتساب الخسائر على مدى عقود من سوء الإدارة والهدر.

كما أن مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره "شفافية دولية" يضع العراق في مراتب متأخرة عالميًا (درجة 26/100 ومرتبة تقارب 140 من 180 في تصنيف 2024)، مما يعكس إدراكًا واسعًا لضعف الحوكمة وتغلغل الممارسات غير الشفافة في قطاعات الدولة. تقارير وتحليلات الأمم المتحدة (UNDP) والمسوح الوطنية التي تناولت الفساد في القطاع العام أظهرت أيضاً انتشاراً واسعاً للرشاوى والممارسات غير القانونية، مع تفاوتٍ إقليميّ كبير داخل البلد.

عام 2014 كان بمثابة اختبارٍ مرير لمدى قدرة الدولة على حماية مواطنيها، إذ استغل تنظيم داعش الفراغ الأمني والفساد وضعف التنسيق بين المؤسسات ليحتل مساحات واسعة من البلاد إلى أن واجهته حملة دولية ومحلية استعادتها بعد سنوات، لكنها تركت وراءها ملايين النازحين، شبكات تهريب، وتدميرًا واسعًا للبنى التحتية والتراث. تقارير الأمم المتحدة والمنظمات المحلية وثّقت تشرد أكثر من ستة ملايين شخص خلال موجات النزوح المرتبطة بصعود "داعش" وما تلاها من عمليات استعادة المدن.

إلى جانب خسائر الأرواح والبنى، زرع الفساد ثقافةً جديدةً في إدارة الدولة: التعيينات بالمحاصصة، عقود التوريد المشبوهة، وغياب المساءلة القضائية والمحاسبة الاستقلالية جعلت المواطن يعاني انقطاعًا في الخدمات الأساسية بينما تضخ ميزانيات كبيرة في بنى إدارية لا تعمل. حتى برامج إعادة الإعمار المدعومة دوليًا واجهت اتهاماتٍ بسوء الإدارة والفساد في بعض الحالات، ما أظهر أن المشكلة ليست فقط محلية بل تمتد إلى آليات التنفيذ والرقابة الدولية والمحلية معًا.

ما الذي تغيّر إذًا؟ تغيّر شكل القمع لا جوهره. الدكتاتورية المركزية أعاقت بناء مؤسسات مدنية فعّالة، لكنه بعد سقوطها لم يولد بديلًا مؤسسيًا يضمن العدالة والمشاركة الحقيقية وإدارة شفافة للثروة. الفيدرالية دستورياً موجودة، لكنها عمليًا محاصَرة بتنافسٍ على الموارد وامتداداتٍ لممارسات المركزية القديمة، ما يعيد إنتاج تهميش الأقليات ويعرقل إعادة التوزيع العادل للثروة.

الطريق إلى استعادة الدولة يتطلّب أكثر من تغيير الوجوه: يحتاج إصلاحًا مؤسسياً حقيقيًا يبدأ بتطبيق النصوص الدستورية (بما فيها المادة 140 المتعلقة بمناطق الخلاف)، ويشتمل على إصلاح القضاء، آليات شفافة لاسترداد الأموال المهربة، خارطة طريق للإعمار تشمل ضمان حقوق الضحايا، وبرامج حماية فعّالة للأقليات وإعادة إعمارٍ ثقافيٍّ للتراث المتضرّر. علاوةً على ذلك، لا بدّ من إرادةٍ سياسيةٍ وطنية تضع المصلحة العامة فوق المحاصصة الحزبية، وتفرض رقابةً حقيقية على العقود والميزانيات، وتمنع إنكار جرائم الماضي أو تحولها إلى موائد تفاوضية.

في نهاية المطاف يبدو أن العراق انتقل من نوعٍ واحد من الاستبداد إلى شكلٍ آخر من إدارة الدولة: لم يعد الحاكمُ الفرد وحده من يمارس السيطرة، بل تحكم مجموعات المصالح والفساد ما تبقى من مؤسسات. ومن دون إصلاحٍ مؤسسي يكفل المواطنة والمساءلة، ستبقى حقبة ما بعد 2003 حلقةً أخرى في سجل طويلٍ من الضحايا والتدمير. الآمال بالتغيير ليست وهماً، لكنها لن تتحقق إلا بقطعٍ حاسم مع عقلية الغنيمة وإعطاء الأسبقيّة للدستور والمساءلة والعدالة الاجتماعية التي تستعيد ثقة الشعب بالدولة كخدمةٍ لا كغنيمة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.