: آخر تحديث

الثقافة النفسية في الأفلام

3
3
2

تُشير أحدث الإحصاءات العالمية إلى أن العبء النفسي لا يمكن تجاهله: في عام 2021 حُدد أن ما يقارب 727–746 ألف شخص لقوا حتفهم نتيجة الانتحار، وأن الانتحار يشكل أحد الأسباب الرئيسية للوفاة بين الشباب (15–29 عاماً). كما تُظهر بيانات عالمية أن أكثر من مليار شخص عاشوا في 2021 مع اضطراب نفسي أو سلوكي، وهو رقم يبرز اتساع مشكلة الصحة النفسية والحاجة الملحّة للخدمات والدعم. هذه الأرقام تضع مسؤولية ثقافية على الجهات الإعلامية وصناع السينما تجاه الدقة والالتزام العلمي عند عرض قضايا نفسية.

الأفلام هي مساحة رمزية وصوتية واسعة تصل إلى جماهير كبيرة، ولها قدرة فريدة على تشكيل معايير اجتماعية وذهنية. عندما تقدّم السينما شخصيات نفسية مُبهمة أو مُبالغًا فيها، فإنها لا تعرض حالة درامية فحسب، بل تزرع تصورات عامة عن المرض، عن الباحثين عن المساعدة، وعن حدود العلاج المتاح. مراجعات أدبية وأبحاث ممتدة على الإعلام أظهرت أن التمثيل الفني غالبًا ما يميل إلى المبالغة في ربط المرض بالعنف أو الغموض، ما يعمّق الوصم ويؤدي إلى نتائج سلبية على سلوكيات طلب المساعدة.

دراسات حديثة حول تمثيلات الصحة النفسية في الأفلام التجارية تكشف عن أن موضوعات مثل الإدمان والمزاج واضطرابات القلق تُعرض كثيرًا، لكن الجودة العلمية للتصوير تختلف من عمل لآخر، وغالبًا تغيب الاستشارات المتخصصة أو صوت من عاشوا التجربة الحقيقية. تقرير مبادرة بحثية حلّل أفلاماً من قوائم أعلى الإيرادات وجد أن تمثيلات الاضطرابات ظاهرة لكنها مُتعَدِّدة الدقة، وهذا يعني أن الجمهور يتعرّض لكلا النمطين: تصوير يساعد على الفهم والشفافية، وتصوير يكرّس الخرافات.

تأثير هذا التمثيل يصل إلى مستويات عملية: أولاً، الوصم الاجتماعي، إذ تبين أن المشاهدين الذين يواجهون تمثيلاً متكرراً للمرض كخطر أو تهديد يميلون أكثر إلى الخوف والنبذ وتقليل التعاطف، مما يعيق قيام الأفراد بطلب الدعم. ثانيًا، هناك أثر ممكن على سلوك الشباب خصوصًا، الذين يتلقون من الوسائط النماذج السلوكية والمعنوية عن المرض وطرق المواجهة. ثالثًا، يمكن للأفلام الدقيقة والحساسة علمياً أن تَحفِز البحث عن علاج، وتخفف من الشعور بالذنب والعزلة، وتفتح حوارات عامة تؤدي إلى تحسين السياسات الصحية.

إزاء ذلك، ما المطلوب من صنّاع الأفلام ووسائل الإعلام؟ أولاً، زيادة التمثيل الكمي والنوعي: عرض طيف واسع من الحالات النفسية بمختلف درجاتها ونتائجها، وليس الاقتصار على الصورِ القصوى أو المأساوية. ثانياً، الاعتماد على استشارات علمية ومهنية أثناء كتابة السيناريو وتصوير المشاهد التي تتضمن تشخيصًا أو علاجًا، أو إدراج تحذير توضيحي عندما يكون العمل دراميًا وغير تشخيصي. ثالثًا، إشراك ذوي الخبرة الحياتية (people with lived experience) كمستشارين أو مُمثّلين لمزيد من الأصالة والإنسانية. رابعًا، ربط الأعمال السينمائية بحملات توعية ومراجع مساعدة للمشاهدين الذين قد يتأثرون بمشاهدٍ عنيفة أو انتحارية.

الأفلام هي أسطورة العصر الحديث، حيث تُعبِّر عن الصور النمطية (الآركيتايبات) التي تتحدث مباشرة إلى اللاوعي الجمعي، مُذكِّرةً الإنسان بجذوره الوجودية، وهي مثل الأحلام؛ ففي الحلم لا تسأل عن المنطق، وتتقبَّل ما تراه دون تردُّد. هنا تكمن قوتها في لمس أعماق النفس، وهي نموذجٌ قويٌ للتعلم بالملاحظة؛ فهي تُشكِّل السلوكيات والاتجاهات عبر عرض نماذج نفسية تُقلِّدها الجماهير دون وعي، وعندما نشاهد فيلمًا، تفعِّل خلايانا العصبية تجارب الشخصيات، مما يخلق تعاطفًا نفسيًّا يُقرِّبنا من فهم الذات والآخرين.

الأفلام التي تُصوِّر الاضطرابات النفسية بدقة تُسهم في كسر وصمة العار، وتُحفِّز الحوار المجتمعي حول الصحة العقلية كجزءٍ من الثقافة الإنسانية، فالهدف من الفيلم ليس سرد قصة، بل خلق مساحة نفسية تسمح للجمهور بأن يعيش تجارب الآخرين، ويكتشف في نفسه ما لم ينتبه إليه من قبل، والأفلام التي تُظهر مراحل العلاج النفسي بصدق تُعلِّم الجمهور أن التعافي ممكن، وتجعل الثقافة النفسية جزءًا من الوعي اليومي. يقول المخرج السينمائي ستانلي كوبريك: «السينما ليست فنًّا للصورة فحسب، بل هي مختبر نفسي يُظهر كيف يُشكِّل الخوف والرغبة سلوك الإنسان، حتى لو لم يدرك ذلك».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد