: آخر تحديث

أذكى من فكر القطيع

2
2
2

محمد ناصر العطوان

لماذا قد يكون ابتعادك عن الحفلات قراراً عبقرياً؟!

عزيزي القارئ، إذا كنت شخصاً اجتماعياً ومنخرطاً في كل الحفلات ومتواجداً في كل الدواوين، وحريصاً على الجلوس مع كل زملاء العمل، ومتواجداً في كل المناسبات... فهذا المقال غير مناسب لك، لأن هذا المقال يقع في قسم الدفاع عن المنعزلين.

تخيل معي عزيزي القارئ... هناك شخص جالس في بيته، يرفض حضور الفعاليات الثقافية، وحضور المناسبات الاجتماعية وحضور دعوات العشاء المؤسسية وملتقيات النقابات المهنية ومتجنباً حفلة عيد ميلاد زميله في العمل... والناس تعتقد أنه «غريب أطوار»!

في الواقع، العلم والفلسفة يقولان إنه من الممكن أن يكون أذكى منهم جميعاً!

كيف ذلك؟ أليس هذا النوع من الأشخاص هم من يقولون عنهم انطوائيين؟ وهذا يصنف من الأمراض النفسية؟ قبل أن تتورط عزيزي القارئ في طرح الأسئلة التقليدية وصاحبة الانحياز في الأحكام، عليك أن تطرح السؤال الأهم وهو لماذا العزلة تنتج الإبداع؟

في دراسة جامعة هارفارد (2023) العقول الأكثر إبداعاً تقضي 70 % من وقتها في العزلة، لذلك فالعزلة ضرورية للتفكير العميق، وفي بحث معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الموظفون المنعزلون ينتجون أفكاراً مبتكرة أكثر بـ40 % بسبب عدم تشتيت الانتباه بالثرثرة الاجتماعية مع الموظفين في القيل والقال، الأغرب هو دراسة ألمانية في علم الأعصاب التي أخبرتنا أن العزلة تنشط مناطق الإبداع في الدماغ بينما التفاعل الاجتماعي المفرط يثبط التفكير الإبداعي.

تخيلوا معي أعزائي القراء، يا مَن تقرأون جريدة (الراي) الغراء، أن التجمعات المهنية تضر بالإبداع، لأنها تنمي «تفكير القطيع»، فالتجمعات تشجع على التماثل الفكري، وفي دراسة يابانية 80 % من قرارات المجموعات تكون متحفظة ومتقاربة... أما سارتر، الفيلسوف الوجودي فقال «الآخرون هم الجحيم»!

إنّ الابتكار الحقيقي لا يحدث في الاجتماعات والمناسبات، بل يأتي من اللحظات الهادئة البعيدة عن المجاملات والنفاق وإهدار الطاقة الذهنية في الابتسامات المصطنعة وإجبار النفس على الاستماع لسخيف أو سخيفة، لذلك إينشتاين، كان يرى أن «الوحدة ضرورية للعمل الإبداعي»، والجماعات الصوفية تحب العزلة كما تحب الزهد، لذلك كانت الجماعات الصوفية تحديداً الأعلى إبداعاً وابتكاراً في الكتابة والتصورات.

يقدم لنا الفيلسوف سينيكا، مفارقة في هذا الموضوع حيث يقول «نحن اجتماعيون بطبيعتنا، لكن العظمة تولد في العزلة» وكل العظماء في التاريخ من نيوتن لكافكا، المعري وفهد العسكر... كانوا منعزلين!

أما شوبنهاور، فيقدم مفارقة أخرى، عندما قال «الإنسان العبقري لا يستطيع العيش في قطيع» لأن القطيع يرفض من يختلف عنه!

أما نيتشه، فيقول «يجب أن يكون لديك فوضى بداخلك لتلد نجماً راقصاً» والفوضى الخلاقة لا تولد في ضجيج الحفلات وتجمعات المؤسسات وثرثرة الزملاء.

دعني عزيزي القارئ آخذك نحو حقائق صادمة عن النقابات والتجمعات المهنية، في إحدى دراسات جامعة ستانفورد عن النقابات المهنية، لاحظوا أنها تثبط الابتكار بنسبة 35 %، وذلك بسبب أنها تفرض معايير موحدة وتقمع الأفكار الجذرية.

والعجيب أن 70 % من الأعضاء النشطين في التجمعات المهنية أقل إبداعاً، بسبب الانشغال بالسياسات الداخلية التي تستهلك طاقة الإبداع.

أنا لا أدعوك عزيزي القارئ إلى الانعزال عن المجتمع، ولكني أقول لك احذر التجمعات التي تشجع على نسخ أفكار الآخرين... فالعزلة تشجع على تطوير أفكار أصلية.

والآن نعود للإجابة عن الأسئلة التقليدية... لماذا الضغط الاجتماعي ضد المنعزلين؟ وهل فعلاً هم مرضى نفسانيون وانطوائيون؟

في الواقع أن في البحر قواقع... وفي الواقع أيضاً أن الخوف من المختلف يجعل المجتمع يخشى من لا ينضم للقطيع، والناس يخافون من الذي لا يحتاج لهم، كما أن هناك وهماً اسمه «الشبكات الاجتماعية سر النجاح» رغم أن الجودة أهم من الكمية في العلاقات.

كذلك الاقتصاد الاستهلاكي يحتاج أشخاصاً اجتماعيين يتواجدون ويحتفلون، أما الشخص المنعزل فيستهلك أقل وغير مرغوب فيه اقتصادياً!

والآن، لكي أختم هذا المقال وأنا مرتاح الضمير، فيجب أن أطرح هذا السؤال، كيف تستثمر عزلتك عزيزي القارئ؟ إليك دليل عملي يساعدك. أولاً عليك أن تعتقد أن عزلتك ليست هروباً... بل إستراتيجية.

خصص وقتاً للتفكير العميق، استثمر في تعلم مهارات جديدة، اختر علاقاتك بعناية، فعلاقة عميقة واحدة أفضل من 100 علاقة سطحية، وفي دراسة 90 % من الإنجازات العظيمة نتاج تعاون ثنائي وليس بجماعي... استخدم التكنولوجيا بذكاء وفكر في التعلم عن بعد بدلاً من الحضور المادي، وفكر في العمل عن بُعد لتجنب ضجيج المكاتب، وطور مهاراتك الفردية مثل الكتابة، البرمجة، البحث العلمي، فهذه المهارات تزدهر في العزلة.

لا تنسى النماذج التاريخية لعباقرة صنعتهم العزلة... مثل نيوتن، الذي طوّر نظرية الجاذبية أثناء العزلة بسبب الطاعون، وفرانز كافكا، الذي كتب أعظم أعماله في عزلة مكتبه البيروقراطي، وأغاثا كريستي، التي ألّفت 66 رواية وهي منعزلة في منزلها... فعزلتك ليست عيباً، هي هبة!

لا تشعر بالذنب لرفضك دعوة حفلة، اقبل نفسك كما أنت، وتذكر أن معظم الإنجازات العظيمة ولدت في صمت العزلة.

المصيبة هي أن تكون في عزلة، ولكنك لا تعلم أنك لست ذكياً. وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد