سارا القرني
في زمنٍ تتسارع فيه التقنية، وتتحول فيه القيم إلى رموزٍ رقمية، يبرز سؤال يطرق أبواب الفكر والوجدان معًا: هل ما زلنا نحمل هويتنا كما كانت، أم أننا أصبحنا نسخًا باهتة من الآخرين؟
لقد تغيَّر شكل العالم، لكن الإنسان ما زال بحاجةٍ إلى جذوره ليبقى ثابتًا. فالهويَّة ليست مجرد موروث أو زيٍّ شعبي أو لهجة تُنطق، بل هي روحٌ تسكن التفاصيل الصغيرة؛ في نظرتنا للحياة، في طريقة احترامنا للآخرين، وفي إيماننا أن الأصالة لا تتناقض مع الحداثة، بل تكتمل بها.
اليوم، تتزاحم أمامنا ثقافات العالم على شاشةٍ صغيرة لا تتجاوز حجم الكف، وتتنافس الأصوات على تصدير «نموذجٍ جديد للإنسان العصري»، لكن خلف هذا الانبهار الرقمي، هناك ذوبان تدريجي لملامحنا الأصيلة، حين نبدأ في تقليد كل ما نراه دون وعي، أو حين نمنح الشهرة لمن لا يستحقها فقط لأنه يجيد الظهور. الحرية الحقيقية ليست في التخلِّي عن قيمنا، بل في أن نحملها بثقة داخل كل تطورٍ نعيشه.
أن نواكب العالم دون أن نفقد ملامحنا، أن نرفع راية الوطن في كل مجالٍ نحبه، وأن نُثبت أن الحداثة لا تُبنى على أنقاض الأصالة، بل تتغذى منها وتزدهر بها.
لقد كانت المرأة السعودية - وما زالت - نموذجًا مُلهِمًا لهذا التحوّل المتوازن. هي التي دخلت مجالات الإعلام، الطب، التقنية، والابتكار، دون أن تتنازل عن هويتها أو حيائها أو مبادئها، بل جعلت من حضورها رسالة، ومن صوتها أداة بناءٍ ووعي. إنها لا تُنافس الرجل لتنتصر عليه، بل تسير إلى جانبه لتنتصر للوطن. وهنا تكمن عظمة التجربة السعودية الحديثة:
أنها لم تُلغِ الماضي لتبدأ من الصفر، بل أعادت صياغته بلغة الحاضر. ومن رحم التراث خرجت رؤية 2030 لتقول للعالم: «نحن لا نُقلّد.. نحن نُبدع من عمقنا».
ومن واجب الإعلام اليوم أن يُعيد صياغة دوره في حماية هذه الهوية. فلا يكفي أن نُصدر الأخبار وننشر الصور، بل علينا أن نصنع المحتوى الذي يعكس فكرنا وثقافتنا. الإعلام ليس مرآةً فقط، بل سلاح وعي. وكل من يملك القلم أو الكلمة أو الصورة.. يملك القدرة على بناء وطنٍ أو تشويهه.
إن الهوية السعودية اليوم ليست محصورة في الماضي، بل تمتد إلى الحاضر بكل ما فيه من إنجازات، وإلى المستقبل بكل ما نحلم به من تفوق. هي هوية تجمع بين الفخر والانفتاح، بين الثبات والتجديد،
تُخاطب العالم بلغته دون أن تتخلّى عن لغتها الخاصة، وتقول له: «نحن هنا.. لا نحتاج أن نُشبه أحدًا.» لقد آن الأوان لأن نعيد تعريف الانتماء، ليس كشعارٍ يُرفع في المناسبات، بل كفعلٍ يومي، يبدأ من احترامنا لما نمثّله، ويمتد إلى كيفية استخدامنا للتقنية، وكيف نتحدث باسم وطننا في كل مساحة رقمية.
إن أعظم إنجازٍ يمكن أن نحققه اليوم ليس في عدد المتابعين، ولا في الشهرة، بل في أن نحافظ على جوهرنا وسط هذا الزحام الهائل من التغيير. أن نكون جيلًا يعرف كيف يتطور دون أن يتنكر لماضيه،
وكيف يمدّ يده للعالم دون أن يفرّط بهويته.
الهوية ليست لباسًا نرتديه وقت الحاجة، ولا تغريدة نكتبها في يوم وطني، بل هي طريقتنا في التفكير، في العيش، في الحلم، وإيماننا بأننا أبناء وطنٍ لا يُشبه سواه. وحين تتكلم الهوية.. تسكت كل الضوضاء.

