محمد الرميحي
لم يعد الجيل الجديد يقاس بالعمر وحده، بل يقاس بالبيئة الرقمية التي ولد فيها، وبالسرعة التي تشكلت فيها أدواته، وبطريقة نظرته إلى العالم من خلف الشاشة. جيل Z هو أول جيل ولد والإنترنت قائم، والهواتف الذكية متاحة، والمنصات حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية، فلم يعرف زمن الانتظار، ولا الرسائل الورقية، ولا الأخبار المؤجلة، بل عرف الفورية، والتدفق المستمر، والاتصال الدائم.
مصطلح جيل Z يشير في الغالب إلى مواليد منتصف التسعينيات حتى عام 2010 تقريباً، وقد ولد المفهوم في بيئات التسويق وشركات التكنولوجيا لفهم المستهلك الجديد، ثم انتقل إلى علم الاجتماع، وعلم النفس، والعلوم السياسية. هو مفهوم غربي المنشأ، لكنه سرعان ما اكتسب طابعاً عالمياً بفعل العولمة الرقمية، فبات جيلاً واحداً في الأدوات، متعدد الوجوه في القيم وأنماط السلوك.
هذا الجيل يختلف جذرياً عمن سبقه، في اللغة، وفي مصادر المعرفة، وفي علاقته بالسلطة، وفي تصوراته عن الهوية والانتماء. الهوية عنده أقل صلابة، وأكثر قابلية للتبدل، والانتماء الرقمي أكثر حضوراً من الانتماء المكاني، وهو يتعامل مع العالم بوصفه فضاءً مفتوحاً لا تحده الجغرافيا كما حدت الأجيال السابقة.
جيل Z لا يثق بسهولة بالإعلام التقليدي، ولا يميل إلى الخطاب السياسي المطول، ولا يتفاعل مع الشعارات الكبيرة غير المدعومة بالعقل والمنطق، يريد معلومة مختصرة، وصورة واضحة، ودليلاً سريعاً، ويقيس المصداقية بعدد المتابعين، وقوة الانتشار، وسرعة التفاعل. السياسة لديه لا تمارس عبر الأحزاب، بقدر ما تمارس عبر المنصات، عبر وسم، أو مقطع قصير، أو جملة رقمية عابرة للحدود.
تأثيره السياسي عميق، لأنه جيل لا يقبل الوصاية بسهولة، ولا يرضخ للتراتبية الصارمة، ويطلب التبرير والمشاركة والشفافية، وهذا ما أربك أنظمة كثيرة في العالم، ديمقراطية كانت أم سلطوية، إذ لم تعد أدوات الضبط التقليدية كافية للسيطرة على فضاء مفتوح لا يعترف بالحواجز.
ثقافياً، هو جيل الصورة قبل النص، والفيديو قبل المقال، والاختصار قبل الإطالة، وهذا أحدث انقلاباً في التعليم، والإعلام، وصناعة الرأي العام، لم تتبينها كثير من مؤسساتنا، لذلك ينفر من المقدمات الطويلة التي يقدمها مذيعو منصات النقاش، فلم تعد الخطب الطويلة مؤثرة كما كانت، ولم تعد الكتب وحدها تصنع الوعي، بل صار المحتوى السريع هو الأشد نفوذاً في تشكيل التصورات والمواقف.
اجتماعياً، تغيرت أنماط العلاقات، فالصداقة لم تعد مقصورة على المكان، والأسرة لم تعد الإطار الوحيد للانتماء، والزواج لم يعد أولوية مبكرة، ارتفعت الفردانية، وتحول التدين من شكل جماعي تقليدي، إلى ممارسات أكثر فردية وانتقائية، وتبدلت أولويات الحياة على نحو غير مسبوق.
جيل Z أكثر تقبلاً للاختلاف، وأكثر حساسية لقضايا الفرد، لكنه في المقابل أقل تمسكاً بالهويات الجمعية الجامدة، وهنا تكمن واحدة من أعقد الإشكاليات في مجتمعاتنا، كيف نوازن بين حرية الفرد، وحماية النسيج الاجتماعي، دون صدام أو قطيعة.
هو جيل عالمي في أدواته، محلي في قيمه، فجيل نيويورك غير جيل الرياض، وجيل القاهرة غير جيل طوكيو، القالب واحد، لكن المحتوى تصنعه الثقافة، والدين، واللغة، والتاريخ. في الخليج نشأ في بيئة رخاء نسبي، ودولة راعية قوية، فجاء أكثر براغماتية، وأكثر ارتباطاً بالفرص المستقبلية، بينما في مناطق الصراع جاء أكثر غضباً، وأكثر توتراً، وأكثر ميلاً للاحتجاج.
الخطر الحقيقي لا يكمن في جيل Z نفسه، بل في سوء فهمه، وفي التعامل معه بعقلية الأجيال السابقة، فهذا جيل لا يمكن قيادته بالأوامر، ولا إقناعه بالشعارات، بل يحتاج إلى خطاب عقلاني، صادق، ومباشر، يحترم ذكاءه، ولا يتعالى عليه. جيل Z ليس مشكلة بحد ذاته، بل هو نتيجة لعصر كامل، عصر السرعة، والشبكات، وتكسر السرديات الكبرى، وهو في السنوات المقبلة سيدخل بقوة إلى سوق العمل، وإلى مواقع التأثير، وسيعيد تشكيل السياسة، والاقتصاد، والثقافة، واللغة العامة، وحينها ستكتشف المجتمعات أن هذا الجيل، رغم كل القلق الذي يحيط به، قد يكون أعظم فرص المستقبل إذا أحسن فهمه.

