في زمنٍ فقدت فيه السياسة ملامحها، وصار الكذب واجبًا وشراء الولاء مهارة، يظهر زهران ممداني كابتسامةٍ تمزّق جدّية الزيف، كصفعةٍ على وجه الأنا المتضخّمة في عالمٍ يعبد الصورة وينسى المعنى.
شاب في الثلاثين من عمره، جاء إلى السياسة من قلب الناس لا من صالونات المال. حمل بطاقة انتخابية بحجم كرت الزيارة، لكنها كانت أثقل من كل اللافتات التي تملأ جدران مدنٍ أنهكها النفاق. بطاقة صغيرة، لكنها حملت وعدًا كبيرًا: أن تكون السياسة شرفًا لا صفقة، وأن يكون العدل فكرة لا شعارًا.
في نيويورك، تلك المدينة التي لا تنام، انتصر ممداني بصمته على ضجيج الآخرين. لم يحتج إلى شاشة عملاقة ولا شعار متوهّج، بل إلى صدقٍ بسيط يسكن الكلمات. نادى بالعدالة الاجتماعية، وبنقلٍ عامٍّ لا يُهين الفقراء، وبحياةٍ تحفظ كرامة العمّال. ففاز، لأن ضميره كان حملته، ولأن التواضع حين يصدُق يصبح أقوى من ألف خطابٍ مفخّخ بالوهم.
وفي المقابل، هناك، في بلادٍ تتقن صناعة الضجيج، يخرج المرشّح العراقي كظلٍّ بلا ملامح، محاطٍ بجيشٍ من الصور والإعلانات والوعود المنفوخة. لا صوت له، بل أصوات تُشترى. لا فكرة، بل فخامة تُستعار. لا مشروع، بل كرنفال من اللافتات المضيئة التي تُطفأ في اليوم التالي للانتخابات.
الفرق بين الاثنين ليس في لون البدلة ولا في عدد المؤتمرات الصحفية، بل في جوهر الفكرة. ممداني يؤمن أن الكلمة وعي، وأن السياسة أخلاق قبل أن تكون منصبًا. أما "المرشح الآخر"، فهو ابن البهرجة، يعيش على الأضواء لأن الظلام يفضح خواءه. الأول يزرع الثقة في الأرض، والثاني يزرع صورته على الجدران. الأول يبني وطنًا في العقول، والثاني يبني قصورًا في الوهم.
إنها المفارقة الكبرى: في بلادٍ تصنع القادة من الفكر، يولد ممداني بابتسامةٍ هادئة. وفي بلادٍ تصنعهم من المال، يولد السياسي كفيلمٍ دعائي طويل، يستهلك نفسه في مشهدٍ واحدٍ من الفخامة المزيّفة.
لقد تحوّلت السياسة في عالمنا إلى عرضٍ استعراضي، إلى حفلةٍ من الأكاذيب المُنمّقة، إلى سباقٍ بين من يملك أكثر لا من يفكر أعمق. في زمنٍ كهذا، يبدو الصدق ضربًا من الجنون، ويبدو التواضع سذاجة. لكن ممداني، بذلك الجنون الجميل، أعاد تعريف السياسة كفنٍّ لخدمة الإنسان، لا كوسيلةٍ لإهانته.
اليوم، حين نرى الفرق بين المرشّحين، لا نرى فقط اختلافًا في الأسلوب، بل في جوهر الإنسان ذاته. هناك عقلٌ يبتسم لأنه واثق، وهنا مالٌ يصرخ لأنه خائف. هناك مشروعٌ يبدأ من الشارع، وهنا شعارٌ ينتهي في المكاتب المغلقة. هناك من يفوز ليخدم، وهناك من يخدم ليفوز.
ومع ذلك، تبقى المفارقة الأجمل أن الفقراء الذين صوّتوا لممداني في نيويورك، لم يبيعوا أصواتهم، بل آمنوا بأن التغيير يبدأ من ورقة صغيرة، لا من صكٍّ كبير. بينما في بعض أوطاننا، ما زال الناس يُقايضون الكرامة بكيلو رزّ أو وعودٍ تُنسى بعد ساعة التصوير.
في النهاية، ليست الحكاية عن ممداني وحده، ولا عن مرشحٍ عراقي بعينه، بل عن سؤالٍ يطارد كل وطنٍ في زمن القبح السياسي: هل نريد من يحكمنا بالعقل، أم من يُخدّرنا بالشعار؟


