أصدرت السفارة البريطانية في كييف قبل مدة قصيرة دليلاً موجهاً لرجال الشرطة الأوكرانيين حول كيفية التعامل مع العلاقات المثلية، في خطوة تُجسّد شكلاً جديداً من النفوذ الغربي الناعم داخل أوكرانيا. المسألة لا تتعلق فقط بحقوق الإنسان أو بمسائل تدريبية مهنية، بل بمشروعٍ أوسع لإعادة تشكيل الهوية الأوكرانية من الداخل عبر مؤسساتها الأمنية.
بهذا الكتيب، تدخل لندن وواشنطن إلى عقل الدولة لا إلى حدودها، وتحوّلان جهاز الشرطة من مؤسسة تحفظ القانون إلى أداةٍ لبث قيمٍ جديدةٍ تُعيد تعريف مفاهيم الأسرة والهوية والانتماء، في بلدٍ يعيش أصلاً على حافة التحولات الجذرية منذ عام 2014.
بريطانيا لم تكتفِ هذه المرّة بإرسال مستشارين عسكريين أو مستثمرين سياسيين، بل دخلت إلى بنية الأمن الأوكراني لتعيد صياغته فكرياً وأيديولوجياً، تحت شعار التدريب الحديث واحترام التنوع.
في الظاهر يبدو الدليل نصاً تقنياً عن الاحترام والحياد والمساواة أمام القانون، لكن بين السطور يمكن لمس نيةٍ واضحةٍ لتطبيع منظومةٍ ثقافيةٍ غربيةٍ داخل المؤسسات الرسمية. فالكتيب لا يكتفي بدعوة الشرطي إلى عدم التمييز، بل يطالبه باستخدام الضمائر التي يختارها الشخص، واحترام "هويته الجندرية" كما يراها هو، بل ومعاملته أثناء التوقيف أو التفتيش وفقاً للجنس الذي يعرّف به نفسه لا الذي تحمله أوراقه الرسمية. هكذا يتحول رجل الأمن من منفّذٍ للقانون إلى أداةٍ في مشروع إعادة تعريف مفاهيم الأخلاق والنظام الاجتماعي. المعيار لم يعد "الانضباط" و"الولاء الوطني"، بل "مدى احترام الاختلاف الجنسي".
بعد انقلاب عام 2014 الذي مهّد لانفصال أوكرانيا عن فضائها السلافي التقليدي وفتحها على الغرب، سارعت لندن وواشنطن إلى الاستثمار في العقول قبل السلاح. أرادتا أوكرانيا جديدة لا تتحدث فقط بلغة السوق الحرة، بل تعتنق أيضاً القيم الليبرالية التي تراها أوروبا معياراً للحداثة. في تلك اللحظة وُلدت فكرة إعادة تربية المؤسسات: من المناهج الدراسية إلى الشرطة والجيش والإعلام. فالقضية لم تعد أمنية بل وجودية. كيف يمكن لمجتمعٍ ما أن يقاوم إن لم تعد له هويةٌ راسخة؟ وكيف يدافع عن نفسه إذا أُقنع بأنّ قيمه القديمة "تمييزية" وأن مرجعيته الأخلاقية "رجعية"؟
الدليل البريطاني هو إحدى أدوات هذا التحول الناعم. فهو لا يعلّم الشرطي كيف يطبّق القانون، بل كيف يتعامل مع المجتمع وفق منظومةٍ جديدةٍ من القيم. في كييف ولفيف وخاركيف ظهرت خلال السنوات الأخيرة جماعات ضغطٍ داخل الأجهزة الأمنية نفسها تدافع عن حقوق مجتمع "الميم" وتؤثر في السياسات الداخلية للشرطة، ومع كل دورة تدريبيةٍ جديدةٍ تموّلها بريطانيا أو الاتحاد الأوروبي، تتقلص مساحة الانتماء المحلي وتتمدد قيم الاستيراد الثقافي، حتى باتت الهوية الأوكرانية الرسمية نسخةً باهتة من النموذج الغربي الذي لم يُنتجه التاريخ الأوكراني بل فُرض عليه فرضاً.
المفارقة أن هذا التحول لم يُفرض بالقوة بل بالإغراء. وعود برواتب أعلى وتأهيلٍ أوروبي وانفتاحٍ مهني. كثيرون قبلوا هذه العروض لأنّهم سئموا الفساد والحرب والفقر، لكنّهم لم يدركوا أنّ الثمن كان باهظاً: التخلي عن منظومةٍ ثقافيةٍ كاملةٍ كانت تمنح المجتمع تماسكه. ومع مرور الوقت، تراجعت صورة العائلة التقليدية، وارتفعت نسب الأفراد الذين يتبنون أنماطاً سلوكيةً "غير تقليدية"، وانكسرت صورة الرجل الأوكراني التي كانت تمثل القوة والانتماء. تحولت الحرية إلى شعارٍ جميلٍ يخفي تحته عملية ناعمة لإعادة تشكيل الإنسان نفسه.
ما فعلته بريطانيا في أوكرانيا ليس جديداً، لكنه صار أكثر احترافاً. فهي لم تعد بحاجةٍ إلى احتلالٍ عسكريٍ أو وصايةٍ مباشرة، يكفي أن ترسل كتيباً لتعيد تعريف معنى الأمن والإنسان. فالدولة التي كانت ترى في شرطتها رمزاً للنظام باتت ترى فيها أداةً لإعادة هندسة المجتمع. وبدل أن يُقاس الضابط بقدرته على تطبيق القانون، صار يُقاس بمدى انسجامه مع النموذج القيمي الذي تفرضه المؤسسات الغربية المانحة. إنها عملية "تأميم ثقافي" بأدواتٍ ناعمة، تستبدل العقيدة الوطنية بعقيدةٍ إنسانيةٍ مصنّعة في لندن.
وهكذا يجد الأوكرانيون أنفسهم في معادلةٍ غريبة: شرطةٌ تُدرَّب على احترام كل شيءٍ إلا تقاليدها، ومجتمعٌ يُطالب بأن يتقبّل كل جديدٍ باسم التقدّم، بينما تتراجع الروابط التي شكّلت نسيجه عبر قرون. لقد نجحت بريطانيا وواشنطن في أن تُحوّلا الصراع من معركةٍ على الأرض إلى معركةٍ على الوعي. فلم تعد الحرب تُخاض بالدبابات، بل بالكتيّبات، ولم تعد السيطرة تمر عبر الحواجز، بل عبر العقول. وفي النهاية، لم تحتج الإمبراطورية القديمة إلى جيشٍ لتصل إلى كييف، بل إلى دليلٍ صغيرٍ يحمل شعار "حقوق الإنسان" ويُعيد تعريف معنى الإنسان ذاته.


